زفرات اللغو

زفرات اللغو

المغرب اليوم -

زفرات اللغو

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

التحليل كلمة منتفخة، في بطنها هواء، بعضُه يدفع كلَّه. المحلّل كلمة حملت شحنة صادمة يبتعد عنها الناس قولاً وعملاً. تحليل المرأة التي يطلِّقها زوجها بالثلاثة يوجب زواجها القصير أو الطويل من رجل آخر كي تحل لزوجها الأول الذي طلَّقها. محللون يُطلون علينا في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تسبقهم صفة «المحلل». بعد الاستماع إلى ما يسيل من أفواههم في قضايا شتى، يشخص في رؤوسنا سؤال: هل وهب المحللون شرعية الحقيقة للقضية التي اختلت بها أفواههم؟ نصمت وأفواهنا فاغرة، عندما تُطل بعد المحللين، قارئة الأبراج، لتُخبرنا بما هو قادم من عظائم الأمور. مَن سيموت، وأين ومتى ستندلع الحروب. أين ستمطر خزائن المال، ومصائر الرجال. عندما يصير اللغو علماً تصبّه زفرات الجهل في رؤوسٍ بينها وبين العلم والفهم ما صنعه الظلام. اللغو هو الكلام الباطل الذي تفصله عن الحقيقة حُفر واسعة لا شيء فيها سوى غبار الجهل الذي يُعمي العقول، حيث يستمرئ الجاهلون ما يسمعون. ومَن منَّ الله عليهم بنعمة العقل فلهم القدرة الضاربة على تمييز الغث من السمين، ولا يدخلون حلقات غبار اللغو. يقول تعالى: «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً»، الفرقان: 72. اللغو حالة اجتماعية حياتية لها مكوناتها، تتسع وتضيق. وقد تطغى على مساحة عريضة من النسيج الاجتماعي، وتستمر حقباً طويلة. يسود فيها الكذب، والعبث الفكري، ويتسيّد فيها الجهل الكاسح. اللغو يتحول في حالات كثيرة إلى وباء يضرب المجتمع، ويعيش في الرؤوس زمناً طويلاً، ويقود إلى الجهل والتخلف، عندما يغيب الترياق الفاعل، وهو العلم والتفكير العقلي، الذي يقود إلى إشعال ضوء المعرفة. في زمن النهوض يكون للعقل حضور فيما يقوله، وفيما يكتبه المفكرون والمبدعون.

سَلِ اللهَ عقلاً نافعاً واستعذ به

من الجهلِ تسأل خير مُعطى لسائلِ

فبالعقلِ تستوفى الفضائلَ كلَّها

كما الجهلِ مستوفٍ جميع الرذائلِ

أبو الفتح البستي

لولا العقولُ لكان أدنى ضيغمٍ

أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ

المتنبي

لا أميل إلى التعميم. ففي كل مجتمع هناك من ذا وذا، ولكن يبقى المقياس هو ما تُعرف بالظاهرة الاجتماعية، وفي الموضوع الذي بين سطورنا هي: حالة اللغو التي تتسع أو تضيق فوق قماشة النسيج الاجتماعي. وفعلها في تغييب الوعي الفاعل. التقنية التي أبدعها الإنسان الباحث بنور عقله، صارت مثل الضوء والهواء، لا يخلو منها بيت أو قرية أو مدينة. «الإنترنت» التي صارت أداة الوصل الإنساني بين الناس، عامّتهم وخاصّتهم. كيف استخدمت الشعوب المتقدمة هذا الاختراع التقني العظيم، وكيف استخدمته الشعوب المتخلفة، على المستوى الفردي والجماعي؟ المتقدمون وجدوا في هذا الاختراع، قوة مضافة إلى قدرات التعلم والتفكير، ومتابعة ما يبدعه العقل الإنساني من جديد في كل المجالات، وبكل اللغات، ومن كل القارات، في حين تسابق المتخلفون لجعل «الإنترنت» صوتاً وحروفاً مضافة في محافل اللغو. صارت الحروف أفواهاً تصرخ في حلبات التنابز، وبث الشائعات والأخبار الكاذبة. أعادت محافل المدح والهجاء، وتبادل عجن الكلمات بين مادح وقادح. الاصطفاف في أرتال التأييد والمعارضة، بقوة المصالح والانفعالات الهائجة الحادة. امتلك اللغو زفرات تُسمع وتُرى. أخذ أهل اللغو أجهزةَ التقنية الحديثة للتواصل، أخذوها معهم إلى حُفر الغيبوبة المقدسة. يتحدثون فيها ويكتبون عن الحسد، والرقية، والسحر، والجهاد، وكراهية الآخر، وتكبيل المرأة، ووأدها في حُفر الجهل والتخلف. غابت إشارات المرور في الخطاب الذي وهبته التقنية مسارات تصل الناس بعضهم ببعض، دون سابق معرفة، كما وهبت التقنية لقادة السيارات إشارات مرور تنظم حركتهم، كي يعبر الجميع بنظام وفي سلام. لقد صارت التقنية اليوم، هي الإنسان الثاني المضاف إلى الإنسان الذي عرفناه قبلها. له حواس مضافة تعرف وتدرك ما فوق الأرض وتحتها وما في الفضاء البعيد. الحاسة التقنية صارت قادرة على قيادة الطائرة والسيارة، بل قيادة الإنسان نفسه على طرق لا يعرفها، وصارت طبيباً يشخِّص الأمراض ويعالجها أيضاً. نحن نعيش اليوم عصر اليقظة، كما عاش الأوروبيون عصر النهضة، الذي أخرج الإنسان من حُفر الغيبوبة القسرية في العصور الوسطى. هناك من أدرك حجم تلك النقلة الإنسانية الفارقة ومداها وأهميتها، لكنَّ الغافلين القابعين في هوّة اللغو تركهم الزمن يتحلقون في حُفر الماضي السحيق البائد، ويمضغون ما قاله من هم في حُفر القبور.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زفرات اللغو زفرات اللغو



GMT 15:13 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

وثائق وحقائق

GMT 15:11 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

متى يصمت المحللون والمعلقون؟!

GMT 15:10 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

جنازة جوتا و«إللّي اختشوا ماتوا»

GMT 15:08 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

عن السلم والإذلال والمسؤوليّة الذاتيّة

GMT 15:05 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

قسمةُ ملايين

GMT 15:03 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

جهة أخرى يعلمها الله!

GMT 15:02 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

إعلان إفلاس

GMT 17:50 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

"أون" تبدأ عرض مسلسل "أبو العلا 90 " لمحمود مرسي

GMT 13:20 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الملك محمد السادس يبعث برقية عزاء في رئيس تشاد

GMT 07:47 2017 الثلاثاء ,10 كانون الثاني / يناير

بطولة الخريف

GMT 00:31 2017 الأربعاء ,06 أيلول / سبتمبر

الكشف عن تفاصيل ألبوم شيرين عبد الوهاب المقبل

GMT 13:02 2022 الأحد ,26 حزيران / يونيو

أفكار بسيطة في الديكور لجلسات خارجية جذّابة

GMT 11:33 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

جريمة قتل تهزّ "سوق الجملة" في مدينة تطوان المغربية

GMT 06:41 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

رئيس الكوكب المراكشي في "قفص الاتِّهام" بسبب مِلفّ السعيدي

GMT 12:37 2019 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

بوصوفة يشيد برونارد ويعتبر المدرب الأفضل بإفريقيا

GMT 05:08 2019 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

"فورد" تطلق سيارتها الحديثة "موستانغ ماخ إي" الكهربائية

GMT 11:03 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة اسماعيل الحداد لا تدعو إلى القلق
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib