«ديب سيك» ومفاتيح المستقبل

«ديب سيك» ومفاتيح المستقبل

المغرب اليوم -

«ديب سيك» ومفاتيح المستقبل

سوسن الأبطح
بقلم - سوسن الأبطح

ظهور منصة «ديب سيك» الصينية وجّه رسالة صادمة للولايات المتحدة الأميركية، مفادها أنها لم تعد تتربع وحدها على عرش الذكاء الاصطناعي التوليدي. أن تخسر شركات التكنولوجيا الأميركية تريليون دولار من قيمتها السوقية في يوم واحد تحت هول المفاجأة، لهو تعبير عن عمق الإحساس بالتهديد الذي شعر به المستثمرون، في شركات عدت نفسها طويلاً متفردة وقابضة على مفاتيح المستقبل، مثل «إنفيديا» التي خسرت في يوم واحد 600 مليار من قيمتها، وقد تبين أن شرائحها شديدة الذكاء، فخر الصناعة الأميركية، التي تحجبها عن المنافسين، لم تعد ضرورة حتمية لربح السباق التكنولوجي.

المعركة بالكاد بدأت. بعد برنامج «ديب سيك» الذي ينافس «تشات جي بي تي» بجدارة، ويقدم خدماته بشبه المجان، مقابل خدمات باهظة الثمن للأخير، فإن التكلفة الزهيدة للبرنامج الصيني التي لم تتجاوز الستة ملايين دولار لا تقاس إلى مائة مليار التي كلفتها النسخة الأخيرة من «تشات جي بي تي». يأتي هذا الخبر المزلزل من الصين، بعد يومين من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب تخصيص 500 مليار دولار، لبرنامج «ستار غيت»، الذي يشكل البنية التحتية الاستراتيجية لتشييد برامج ذكاء اصطناعي لا تضاهى.

أي صدمة للمستثمرين في مشاريع بهذه الكلفة والضخامة، بينما شركة صينية ناشئة، تتمكن من تحقيق إنجاز بالنتائج نفسها، في غضون سنة ونصف السنة، بكلفة شقة فخمة في حي باريسي فقط، وبتجهيزات متواضعة، وتجعله مفتوح المصدر عكس منافسه الأميركي، معتمدة على شرائح أقدم بجيلين من التي اعتمد عليها «تشات جي بي تي».

إذا أضفنا أن «ستار غيت» هو مشروع يحتاج تشغيله إلى طاقة كهربائية هائلة، لا تزال غير متوفرة، ويتسبب في تلوث بيئي كبير، فنحن أمام نظامين، أي الصيني والأميركي، المقارنة بينهما تجعل المستثمرين والمستخدمين معاً ينحازون إلى الأول، ويرون في الثاني هدراً، لا بل جنوناً يصعب مجاراته، لأنه محكوم عليه بالخسارة. لكن الأمر لن يمرّ ببساطة. فقد سارعت شركة «أوبن إيه آي» إلى اتهام «ديب سيك» باستخدام نظامها، وسرقة حقوق ملكيتها الفكرية، وشركات أميركية أخرى بدأت تحقيقاتها لتتأكد من أنها لم تتعرض هي الأخرى للقرصنة.

قد تكون تكلفة البرنامج الصيني أكبر مما يصرح به، أو أن «ديب سيك» استفاد من التكنولوجيا الأميركية، وهذا مرجّح، ولعل قرصنة حدثت، هذا لا يلغي أن الصين وجهت صفعة موجعة لوادي السيليكون، وأثبتت بعد روسيا أن العقوبات ومنع المنتجات المتطورة عن المنافسين يجعلهم يشعرون بمزيد من التحدي لتجاوز من يحرمهم حق المعرفة.

من يطرح أسئلة عادية على «ديب سيك» يلحظ هفواته مقارنة بالبرنامج الأميركي، لكن المتخصصين يؤكدون تفوقه المثير للإعجاب في المسائل الرياضية والمسائل التقنية. والتجربة تفيد بأن مواطن الضعف يسهل ردمها بوقت قياسي في هذا النوع من المنصات.

برامج الذكاء الاصطناعي الأميركية بعد قفزاتها المهولة تشهد نوعاً من الركود، وصعوبة في تحقيق إنجازات كبيرة أخرى، في وقت قياسي كما تتمنى، رغم التمويلات شديدة السخاء. منذ عام ونصف العام وشركة «أوبن إيه آي» تعد مستخدميها بنسخة جديدة من «تشات جي بي تي» لكنه يتعثر، بسبب الحاجة إلى صياغة نظام جديد ومختلف عن سابقه.

هذا لا يعني أن الصين كسبت الرهان لكن الجولة الحالية كانت قاسية على وادي السيليكون، الذي بدأ رواده في التفكير بضرورة تغيير استراتيجياتهم، وتخفيض كلفهم، والحذر مما يجري حولهم.

عقاب الصين سيكون أليماً، ستطارد وتشدد عليها العقوبات، ويُدّعى عليها في المحاكم. إذ كيف تمكنت شركة «أوبن إيه آي»، من التأكد أن «ديب سيك» قرصنتها في غضون ساعات فقط. وكل هذا يحتاج إلى بحث وإثباتات.

من يمتلك التفوق في الذكاء الاصطناعي يضمن تفوقاً في كل مجال آخر، خصوصاً العسكري. وهذا بيت القصيد. إذ يتساءل المفكر الفرنسي إيمانويل تود، إن كانت حرباً بين أميركا والصين، فيمكن أن تكون حقاً لصالح أميركا، وهي تعتمد على قطع تقليدية مثل حاملات الطائرات سهلة التدمير، وما الذي تخبئه الصين عن أعين أعدائها من مفاجآت عسكرية تكنولوجية سريّة؟ وهنا ينقسم التقنيون بين مَن يرى الغلبة للصين، مثل رائد الأعمال الصيني كاي فو لي، الذي كان مديراً لـ«غوغل» في بلاده، ومَن يظن أن الإمكانات الأميركية الضخمة وقدرتها المستمرة على جذب الكفاءات البشرية سترجح الكفة لها.

لكن قبل أن تستفيق أميركا من فوبيا «تيك توك» الذي احتارت بأمره، وقعت عليها مصيبة «ديب سيك» الذي منح نفسه مجاناً لمن يريد. شيء يذكر بمعركة «هواوي» التي تغلّبت واكتسحت، وها هي تتعايش مع «آبل»، والسيارات الكهربائية التي تنافس «تسلا».

«زلزال»، كما وصفه البعض أو «ناقوس خطر» حسب الرئيس ترمب الذي أبدى تفاؤلاً، لأن الصين فتحت عينه على إمكانية بناء استراتيجية تكنولوجية مغايرة توفر عليه مئات المليارات، فنحن على فالق حرب لم يشهد لها الكوكب مثيلاً، سيقرر فيها الأقوى نوعية الإجابات التي سنتبناها، ويحدد منظور الرؤية التي سنرى بعينيها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«ديب سيك» ومفاتيح المستقبل «ديب سيك» ومفاتيح المستقبل



GMT 15:28 2025 الجمعة ,04 تموز / يوليو

مسلم ــ شيوعي ــ يساري

GMT 15:24 2025 الجمعة ,04 تموز / يوليو

مَن يعبر مِن حرائق الإقليم؟

GMT 15:23 2025 الجمعة ,04 تموز / يوليو

«الثنائي الشيعي» و«كوفيد ــ 26»

GMT 15:21 2025 الجمعة ,04 تموز / يوليو

قتل العلماء أو قتل القوة؟

GMT 15:20 2025 الجمعة ,04 تموز / يوليو

الغباء البشري

GMT 15:19 2025 الجمعة ,04 تموز / يوليو

صلاح ومحمود «بينج بونج»!

GMT 00:48 2016 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

شيماء الزمزمي بطلة للمغرب في رياضة الجمباز

GMT 17:43 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 08:56 2019 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تنصيب ناروهيتو إمبراطورا لليابان رسمياً

GMT 17:34 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحتضن أول بطولة عربية في مضمار الدراجات «بي.إم .إكس»

GMT 08:59 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

هيفاء وهبي تؤكد وجود الكثير من النساء الذين يفقنها جمالًا

GMT 04:17 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

الدرك الملكي يحجز كمية مهمة من المواد المنظفة المزيفة

GMT 13:09 2012 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

اليمن: حملة توعية بالحديدة بأهمية حماية البيئة

GMT 15:36 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

تشييع جثمان الجنرال دوكور دارمي عبد الحق القادري
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib