كانت توقعات الأرصاد الجوية الفرنسية عام 2014 أن تبلغ درجة الحرارة 40 درجة مئوية بحلول عام 2050؛ بسبب الاختلال المناخي. الواقع جاء أسوأ بكثير. اجتاح أوروبا القيظ، وبلغ معدلات مخيفة، في ظرف سنوات قليلة فقط. مع ذلك فإن الأولوية في أوروبا عند رفع الميزانيات هو للتسلح وليس للمناخ. المحيط المتجمد الشمالي، يذوب تدريجياً، بسرعة تفوق كل تصور، إلا أن ما يشغل أسياد العالم، ليس ما يمكن أن يغرقه هذا الطوفان الكبير بعد ارتفاع نسبة المياه، وما سيحل من كوارث بانطلاق غاز الميثان السام، وتدميره حياة مئات ملايين الناس؛ وإنما الصراع سيكون على فرض الهيمنة ونهب ثروات هذه المناطق الغنية التي تتركز فيها آبار النفط والغاز وتنام على معادن نادرة، حتى إن حروباً كبرى يمكن أن تندلع بسبب الاقتتال على غرينلاند أو السطو على كندا.
الأمثلة على تدهور الوعي، والانسياق وراء الجشع، كثيرة، منها انكباب المليارديرات النافذين على إقامة ملاجئ فخمة مزودة بكل وسائل الرفاهية، وطعام يكفي المقيمين فيها لسنة كاملة، في حال اندلاع حرب كبرى، بدلاً من السعي لمساعدة البشرية على النجاة. ثمة من قرر الهرب إلى الفضاء، وعلى رأسهم إيلون ماسك، الذي يحلم بأن يصل إلى كوكب يمكنه العيش فيه طوال مدة الحرب. وهو حالياً في سباق مع الزمن، فيما لم يفصح العريس جيف بيزوس، عن رغبة مشابهة صراحة، لكنه يسعى لتحقيقها عبر صواريخه.
الالتفاف على الكوارث بدل معالجة أسبابها وتجنب حدوثها، سمة متنامية قد تكون ناتجة عن غياب الوعي بالأولويات. وثمة من يعزو الفوضى التي نعيشها إلى انخفاض في نسبة الذكاء. والتوقعات أن التدهور الذهني سيبقى مستمراً.
هذا تبشرنا به دراسات علمية، متوالية، تتطابق نتائجها بشكل يدعو إلى الإحساس بالخطر. الشهير جيمس روبرت فلين لاحظ أن معدلات الذكاء في بعض الدول زادت خلال القرن العشرين بشكل ملحوظ، عبر الأجيال. بالقياس وجد أن الذكاء ارتفع بمعدل ثلاث نقاط كل عقد، وهي نتائج مبهرة.
لكنه في أبحاثه الأخيرة في التسعينات، لاحظ تراجعاً واضحاً حصل في دول متقدمة مثل بريطانيا والنرويج والدنمارك وهولندا وفنلندا. تنامي الذكاء وانخفاضه، لا يعيدهما باحثنا لأسباب جينية أو بيولوجية بل لتدهور مستوى التعليم والاستخدام المفرط للتكنولوجيا، والمبالغة في اللجوء إلى الترفيه. كما أن الألمعية هي نتاج الإعداد الجيد، وتمرين الذهن على حلّ المشكلات المعقدة، والتحليل المستمر، وربط الأفكار بمهارة.
تأثير فلين، لا يزال قائماً والقياس مستمراً، والنتائج محزنة. لكن مع صعود نجم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المعروفة، استبشر الباحثون خيراً. الميل صار جارفاً، للقول إن إراحة الذهن من المهمات التقليدية البليدة، مثل كتابة رسالة إلكترونية، أو التفكير في برنامج صحي، والبحث عن طبخة اليوم، وأفضل ما يمكنني عمله لإنزال الوزن، يفسح في المجال للأذكياء ليصبحوا أكثر نبوغاً، وهم يتفرغون للتفكير فيما لم يكن يتاح لهم إعطاؤه الوقت الكافي من قبل. هذا كان من سنتين خلتا.
من حينها والبحث متواصل، لقياس تأثير هذا الذكاء الاصطناعي على الأدمغة، رغم أنه لا يزال محدود القدرات، يحتاج المراقبة البشرية، والربط بين المعطيات، وربما الانتقال من تطبيق ذكي إلى آخر، لإنهاء مهمة واحدة. والنتيجة في الغالب، تدعو للحذر، ومن نتائج قد تكون وخيمة رغم الإيجابيات.
دراسة أجرتها «مايكروسوفت» وجامعة «كارنيغي ميلون» على 319 شخصاً أفادوا من استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي مرة واحدة على الأقل أسبوعياً، وجدت أن تركيزهم صار ينصبُ على التحقق من إجابات الذكاء الاصطناعي، بدل استخدام التفكير النقدي، مثل إنشاء المعلومات وتقييمها وتحليلها. وإذا اقتصر تدخل الإنسان على هذه الحالات، سيُحرم من فرص روتينية لتقوية قدراته الإدراكية، مما يجعلها ضامرة، وغير مستعدة لمواجهة المشكلات بمرونة كافية.
باحث كبير ومستشار مثل نورييل روبيني، يحذر من أن إضافة إلى تعطيل العقل تحمل هذه الروبوتات، التي لا تزال تحبو في طياتها، «إمكانات تدميرية هائلة». فقد تستخدم للتضليل الإعلامي، والتزييف العميق، والتلاعب بالانتخابات، وتفاقم التفاوت الاجتماعي. كما أن صعود الأسلحة الذاتية التشغيل والحرب السيبرانية المدعومة بالذكاء الاصطناعي «يُنذر بالسوء بالقدر نفسه».
دع عنك كل هذا وخطر فقدان الوظائف، فإن تصوير العصب والمتابعة الذهنية لمستخدمي الذكاء الاصطناعي، بيّنا انخفاضاً في موجات «ثيتا» الدماغية، المرتبطة بالتعلم وتكوين الذاكرة، مقارنة بمستخدمي محركات البحث. الذين استخدموا برنامج المحادثة الآلي، فشل غالبيتهم في تذكّر اقتباس واحد صحيح من مقالاتهم، مقارنة بـ10 في المائة من أولئك الذين استخدموا محرك بحث، في دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
عشرات الدراسات تحذر من «ترهل عضلي» و«خمول فكري»، و«كسل في الحس النقدي»، و«تبّلد شعوري» عند مدمني استخدام الذكاء الاصطناعي، فهل سمة العصر الجديد هي «الغباء البشري».