الإلهاء كَفنٍّ سياسي التجربة البريطانية

الإلهاء كَفنٍّ سياسي... التجربة البريطانية

المغرب اليوم -

الإلهاء كَفنٍّ سياسي التجربة البريطانية

محمد الرميحي
بقلم : محمد الرميحي

كوني قد قضيت وقتاً طالباً في الجامعات البريطانية منذ سنوات، أصبحت من أولئك الذين يتابعون الشأن البريطاني، لذلك فإن اطلاعي على وسائل الإعلام مستمر.

في الأيام الأخيرة، وجدت أن وسائل الإعلام تركّز على قضية الأمير أندرو، وهو أخٌ للملك تشارلز الثالث، وتلقي الأضواء على مشكلته التي أدت إلى أن يتنازل عن مهامه الملكية.

وقد استمرت وسائل الإعلام في ترديد تلك القصص حتى اختفت العناوين الأخرى المحلية والدولية لأيام عدة عن الإعلام.
الواقعة تُذكر بالأوراق التي نشرت (وكانت سرية) لفترة جيم كالاهان، الذي تولى رئاسة الوزراء البريطانية عن حزب العمال منذ أبريل 1976 وحتى مايو 1979.

وقتها كانت هناك قاعدة أميركية في جنوب بريطانيا تحمل صواريخ عابرة للقارات، وشعر المجتمع البريطاني بأن ذلك يهدد الأمن والسلامة للدولة، فبدأت الدعوة للمظاهرات من أجل الاتجاه إلى هذه القاعدة، ومحاولة الدخول إليها وتخريب بعض المُعدات، كان الوقت هو وقت الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، وكانت بريطانيا تشعر بأنها تؤمّن نفسها من خلال تلك القاعدة.

عندما بدأت الدعوة تتصاعد إلى هذه المظاهرة الكبرى، اقترح وزير الداخلية على رئيس الوزراء أن يُوعز للعائلة المالكة بأن تنظم جولة خارجية لأحد الشخصيات الملكية البارزة، كان الهدف هو تحويل أنظار الصحافة إلى الجولة الملكية، بدلاً من المظاهرات، وقال، في رسالته، إن الإعلام البريطاني سوف يتبع الشخصية الملكية، ويقلل أو يتجاهل أخبار المظاهرة!

قضية أندرو التي تفجرت، الأسبوع الماضي، تُذكرنا بشيء شبيه بذلك، فالحكومة البريطانية وجدت نفسها، في الأسابيع الأخيرة، أمام معضلتين سياسيتين، تفجّر بعدها غضب المعارضة بألوانها المختلفة، وشغلت الإعلام، وأحرجت الحكومة.

الأولى اتهام بعض الشخصيات بأنها تعمل على تسريب معلومات سرية إلى الصين الشعبية، في هذه الحال قُدم المتهمان إلى المحاكمة، ولكن القضية أُجهضت، والسبب أن الحكومة البريطانية لم تقدم دليلاً كافياً لإدانة المتهمين، هنا ضجت المعارضة البريطانية، والقضية الثانية هي منع المشجعين الإسرائيليين من مباراة أستون فيلا مع الفريق الإسرائيلي في برمنغهام، حيث قررت شرطة المدينة أن ذلك سوف يسبب مخاطرة أمنية. من جديد انطلقت المعارضة البريطانية للتنديد بهذا الموقف، ودعوة الحكومة البريطانية أن تتدخل من أجل أن يساهم المشجعون الإسرائيليون في تشجيع فريقهم.

هذه الضجة حول تلك القضيتين أخذت الإعلام البريطاني إلى مناقشة الأمر مناقشة واسعة، بين الأخذ والرد مما أحرج الحكومة البريطانية.

في هذه الأثناء تفجرت من جديد قضية الأمير أندرو المتعلقة بعلاقات مشبوهة مع رجل أميركي اشتهر بتدبير اللقاءات مع فتيات قاصرات، وقد نفى الأمير ذلك بشكل قاطع في مناسبات مختلفة، إلا أن توقيت تنازله قد انشغل به الإعلام لأسابيع، وتجاوز القضايا الأخرى.

قضية الأمير قد مر عليها أكثر من عشر سنوات، ومصادفة تنازل الأمير أندرو في هذه المرحلة تُذكرنا بقصة كالاهان، واقتراح وزير داخليته، من أجل إشغال الجمهور عن القضايا السياسية المطروحة.

خلف هذا الاستخدام تقف فلسفة بريطانية قديمة في إدارة المجال العام، هي أن الرأي العام لا يتحمل التوتر السياسي المتواصل، وأن الصحافة والإعلام يبحثان دائماً عن رمز إنساني يعيد التوازن إلى المزاج العام، والعائلة المالكة البريطانية هي الرافعة.

تعتمد هذه السياسة على فهم دقيق لطبيعة الإعلام البريطاني، وخاصة في تركيزه على الصور والعناوين العاطفية أكثر من التحليل السياسي، وحين تظهر صور العائلة المالكة أو بعضها في الصفحة الأولى، تختفي أخبار المظاهرات والفضائح إلى الصفحات الداخلية.

دراسة هذا الأمر تكشف عن البعد المسرحي في السياسة البريطانية، حيث تظل الملكية جزءاً من الديكور الوطني الذي يتحكم فيه الساسة بحذر، ولا بد أيضاً من التذكير بأن الإعلام ليس مجرد ناقل الحدث، بل شريك فعال في صياغة الوعي العام، والرمز الملكي يمكن أن يكون أقوى من أي خطاب حزبي.

منذ القرن الـ20 وحتى اليوم، ظلت العائلة المالكة في بريطانيا تمثل أداة رمزية يستخدمها السياسيون في أوقات الأزمات، في حين أن النظام الملكي يعلن نفسه فوق السياسة، فقد أظهرت التجربة أن الساسة يستدعون الرمزية الملكية كلما احتاجوا إلى تحويل انتباه الرأي العام، أو إلى تهدئة الأجواء العامة.

يُسعفنا التاريخ بأمثلة كثيرة عندما أصرّ الملك جورج السادس على البقاء في العاصمة إبان الحرب العالمية، مما شكل رمزاً وطنياً للصمود، واستغل تشرشل هذه الصورة لتقوية الجبهة الداخلية وإبراز الوحدة الوطنية.

وفي ظل التوتر الاقتصادي في عهد مارغريت ثاتشر، استخدم الزفاف الملكي لولي العهد وقتها الأمير تشارلز على الأميرة الجميلة ديانا، لتوحيد الشعب البريطاني، حول الحدث الرمزي العاطفي، مما غطى على الأزمات الاجتماعية والسياسية، واستخدم توني بلير وفاة الأميرة ديانا عندما وقف أمام باب مقر الحكومة، وتحدث عن (أميرة الشعب) بمجرد الإعلان عن وفاتها.

تكشف هذه الأعمال السياسة البريطانية، عندما تواجه الحكومات أزمات وانقسامات، تُفعل الرمزية الملكية لإعادة التوازن في المزاج الوطني، وتُعرف الظاهرة بأنها (الإزاحة)؛ أي توجيه انتباه الرأي العام إلى موضوعات مختلفة عن الموضوعات الساخنة التي تشغل أو تحرج الحكومة القائمة.

آخر الكلام: الملكية هناك ليست حكماً، بل ذاكرة تُسكت ضجيج السياسة كلما علا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإلهاء كَفنٍّ سياسي التجربة البريطانية الإلهاء كَفنٍّ سياسي التجربة البريطانية



GMT 20:14 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

بيروت والكلام المغشوش

GMT 20:11 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

التغييرات المناخية... الأمل بالطيران في بيليم

GMT 20:05 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

انتحار الصِغار و«رقمنة» اليأس

GMT 20:00 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

الحبل السُّرِّي بين العالم العربي وحل الدولة الفلسطينية

GMT 19:47 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

عالم من الضواري

GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 21:29 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء
المغرب اليوم - العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء

GMT 12:02 2025 السبت ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة كندية تكشف أن النساء أكثر عرضة لمضاعفات أمراض القلب
المغرب اليوم - دراسة كندية تكشف أن النساء أكثر عرضة لمضاعفات أمراض القلب

GMT 13:31 2025 السبت ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

شريهان تشارك في حفل افتتاح المتحف بعد غياب سنوات
المغرب اليوم - شريهان تشارك في حفل افتتاح المتحف بعد غياب سنوات

GMT 17:25 2013 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"ماوس" تطفو اعتمادًا على دوائر مغناطيسية

GMT 09:48 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم "الشلال" يسعى إلى جذب زبائنه بشتى الطرق في الفليبين

GMT 23:15 2023 السبت ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سان جيرمان يكتسح ستراسبورغ بثلاثية في الدوري الفرنسي

GMT 08:04 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سلطنة عمان تحذر مواطنيها من خطورة السفر إلى لبنان

GMT 22:31 2023 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي مهدي بنعطية مرشح لمنصب مدير رياضي بفرنسا

GMT 08:16 2023 الأربعاء ,13 أيلول / سبتمبر

أبرز الأخطاء الشائعة في ديكورات غرف النوم الزوجيّة

GMT 16:04 2023 الإثنين ,11 أيلول / سبتمبر

150 قتيلا جراء الفيضانات والأمطار الغزيرة في ليبيا

GMT 13:24 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

''فريد غنام'' يطرح فيديو كليب ''الزين الزين''

GMT 20:55 2022 الخميس ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جوجل تطمح لتقديم خدماتها بألف لغة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib