غربال التاريخ المتحرك

غربال التاريخ المتحرك

المغرب اليوم -

غربال التاريخ المتحرك

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

في الجدارية الشهيرة «مدرسة أثينا» لرسام عصر النهضة الإيطالي رافائيل، جمع الرسام المفكرين الذين أثَّروا في الغرب، وبينهم أفلاطون وأرسطو وسقراط وأبيقور ومايكل أنجيلو. يتوسطهم الفيلسوف العربي المسلم الأندلسي ابن رشد، المعروف باسمه اللاتيني – أفيروس – الذي ساهم بقوة في تكوين العقل الأوروبي النهضوي. تمت ترجمة فلسفة ابن رشد من العربية إلى اللاتينية، ونالت اهتمام الفلاسفة والمفكرين والدارسين الأوروبيين. نقل ابن رشد فلسفة المعلم الأول أرسطو، إلى اللغة العربية وفسرها، ونقلها الإيطاليون عنه إلى اللاتينية، في حين قام الفقهاء المسلمون الأندلسيون، وخدم السلطان، بتشكيل جبهة واسعة وعنيفة معادية له، ووجهوا له عشرات التهم، فغضب عليه السلطان المنصور الموحدي، ونفاه إلى اليُسَانة بمنطقة قرطبة وحُرقت كتبه، بحجة مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة. كان ابن رشد فقيهاً وقاضياً وفيلسوفاً. استوعب ابن رشد فلسفة أرسطو المعقدة وفسرها، واهتم بها الأوروبيون، وساهم فكره في النهضة الأوروبية، التي فتحت أبواب النهضة والتقدم. آمن بتكامل العقل والشريعة الإسلامية وألفَّ كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». قال إن من خلق الشريعة، هو الذي خلق العقل، والهدف هو سعادة الإنسان، ويجب أن يُقدم العقل على النقل. ومن أقواله: كل أمة لها نبيّها، وفلاسفة الإسكندرية تحولوا إلى المسيحية عند ظهورها، كي يتوافقوا مع الجمهور ومعتقدات الأمة، وهذا ما حدث في سوريا والعراق، عند ظهور الإسلام ووصوله إلى أوطانهم.

ما كان لابن رشد في دنيا العرب، وما كان له في أوروبا، لا يغادران ما نعيشه اليوم، ونأمل في ألا يستمر قروناً. جدارية «مدرسة أثينا» الخالدة، هي الشاهد الحي على طول المسافة، بين عبقرية العقل، ووباء الجهل. كم من ابن رشد قدح عقله في منطقتنا، فكان مصيره التكفير والنفي أو القتل أو الهروب، حيث أضاء توهج عقله في أرض بعيدة.

ماذا يعني لنا اليوم، هذا الفيلسوف العربي المسلم، الذي ساهم في إقلاع العقل الأوروبي نحو النهضة، وما حققته بعد ذلك من رقي لم يتوقف؟ هو درس حي يجب أن نتخذ منه عبرة تحرك ما في الرؤوس. المفكر الدكتور مراد وهبة، وهب عمره يكتب ويتحدث في بلاد العرب وخارجها، عن الفيلسوف ابن رشد. أسس المفكر وهبة جمعيات عالمية لدراسة فلسفة ابن رشد، ودعا إلى تضمينها في المناهج الدراسية العربية. لم يهدف المفكر وهبة، إلى تعليم فلسفة ابن رشد للجيل العربي الحديث فحسب، بل قصد أيضاً إلى أخذ العبرة من استضاءة الأوروبيين بفلسفة ابن رشد، واضطهاد المسلمين له ونفيه وحرق كتبه. إلى اليوم نكرر ما كان منذ مئات السنين. محنة ابن رشد تعيش بشهيقها وزفيرها فينا.

محطات كثيرة في الفكر العربي الإسلامي، أشعلت ومضات فكرية منيرة، لكنها خُنقت برياح الظلام الموروث، وغشَّى رماد الفقه العقول، وران على الحروف، وظل المنقول المتآكل هو الحبل الممسك بالرؤوس. يصدق عليه قول طرفة بن العبد:

لكالطِوَلِ المُرخَى وثِنْيَاهُ باليدِ.

أبو حامد الغزالي طاف في فجاج الفكر والفلسفة والدين والتاريخ، لكن حبل الفقه كان يشده إلى رعشات التضارب، ليتدحرج في متاهات التناقض.

الغزالي هو القائل: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى». وهناك من قال إن كبار الفلاسفة تأثروا بأبي حامد الغزالي، مثل ديكارت ونيكولا مالبرانش، وديفيد هيوم وإيمانويل كانت، وعدَّه البعض مؤسس مدرسة الشك الفلسفي. عارض المتصوفة المبالغين الذين قالوا بالحلول والمعجزات، وردَّ على الباطنية والقرامطة والإسماعيلية والباطنية.

ألَّف الكثير من الكتب، في مواضيع مختلفة، أهمها «المنقذ من الظلال»، و«إحياء علوم الدين»، و«قواعد المنهج». امتلك أبو حامد الغزالي قدرات فكرية وكتابية، ودخل إلى دائرة الفلسفة باقتدار، لكنه في الوقت ذاته حمل عصاه، وهوى بها على الفلسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، في معركة هدفها هدم الفلسفة، ودحر الفلاسفة وفي مقدمتهم الفيلسوف الفارابي، ومن معه من الفلاسفة المشّائين، متسلحاً بالقول، «إن الفلسفة دون العقيدة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة». في الواقع كان أبو حامد الغزالي فيلسوفاً، عندما هاجم الفلسفة والفلاسفة. وكان منهجه في ذلك فلسفياً. وعلق البعض على ذلك بالقول: «إن الغزالي ابتلع الفلسفة ولم يستطع أن يتقيأ ما ابتلع».

ردَّ ابن رشد على كتاب الغزالي بكتاب «تهافت التهافت». تناول فيه الأسس التي أقام عليها الغزالي مرتكزات نقده للفلسفة والفلاسفة، متسلحاً بما أخذه عن معلمه أرسطو وغيره من الفلاسفة الإغريق. سواء فيما يتعلق بالزمان والمكان والمصير والإنسان، أو عن النسبي والمطلق والكون والطبيعة وغيرها.

كان لأوروبا، جداريتها التاريخية الخالدة الباقية، وهي في الحقيقة الرمز والمعنى الشاهد على رافعة العقل الإنساني التي حققت النهوض الأوروبي الكبير. هناك كان وما زال أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد العربي الأندلسي، الذي قذفه الجهل المحنط إلى دنيا أقلعت نحو العصور الجديدة، فكان أيقونة جدارية العبقرية، التي ألقى عليها أبو حامد الغزالي ومن لفَّ لفّه عباءة ظلام التهافت. هناك من قال إن الغزالي ساهم بقوة، في وهن الحضارة العربية الإسلامية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غربال التاريخ المتحرك غربال التاريخ المتحرك



GMT 00:06 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

استقرار واستدامة

GMT 00:01 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

نسخة ليبية من «آسفين يا ريّس»!

GMT 23:59 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

بضع ملاحظات عن السلاح بوصفه شريك إسرائيل في قتلنا

GMT 23:58 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

ليبيا... أضاعوها ثم تعاركوا عليها

GMT 23:55 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

الأديان ومكافحة العنصرية في أوروبا

GMT 23:52 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

إن كنت ناسي أفكرك!!

GMT 23:49 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

سوء حظ السودان

نجمات الموضة يتألقن بإطلالات صيفية منعشة تجمع بين البساطة والأنوثة

دبي - المغرب اليوم

GMT 10:25 2016 الأربعاء ,18 أيار / مايو

أمير قطر يتسلم رسالة خطية من الرئيس السوداني

GMT 18:16 2015 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

زيت شجرة الشاي لعلاج التهاب باطن العين

GMT 04:56 2016 الإثنين ,04 كانون الثاني / يناير

ارتفاع حركة النقل الجوي في مطارات المغرب بنسبة 1.79 %

GMT 13:04 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مجموعة "المغانا" تتبرأ من "تيفو" مباراة المغرب والغابون

GMT 22:00 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

ناصيف زيتون يحي صيف النجاحات وسط حضور جماهيري حاشد

GMT 19:55 2022 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

هبوط أسعار النفط مع تنامي مخاوف الصين من فيروس كورونا

GMT 15:06 2022 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أرباح "مصرف المغرب" تبلغ 438 مليون درهم

GMT 12:29 2022 السبت ,07 أيار / مايو

أفضل أنواع الهايلايتر لجميع أنواع البشرة

GMT 17:41 2022 السبت ,09 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 4,3 درجات في إقليم الدريوْش

GMT 23:50 2022 الأربعاء ,26 كانون الثاني / يناير

"ناسا" ترصد مليون دولار لمن يحل مشكلة إطعام رواد الفضاء

GMT 20:42 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

مدريد تستعد لأشد تساقط للثلوج منذ عقود

GMT 01:34 2020 الخميس ,03 كانون الأول / ديسمبر

الحكم على المودل سلمى الشيمي ومصورها

GMT 22:23 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

مُساعد جوسيب بارتوميو يظهر في انتخابات نادي برشلونة المقبلة

GMT 15:54 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز التوقعات لعودة تطبيق الحجر الصحي الكامل في المغرب

GMT 19:12 2020 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أمن طنجة يحقق في اتهامات باغتصاب تلميذ قاصر داخل مدرسة

GMT 23:35 2020 الأحد ,13 أيلول / سبتمبر

فساتين سهرة باللون الأخضر الفاتح

GMT 23:41 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

بلاغ هام من وزارة "أمزازي" بشأن التعليم عن بعد
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib