من أجل عقل ينير

من أجل عقل ينير

المغرب اليوم -

من أجل عقل ينير

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

القرن الرابع الهجري، كان حلقة تاريخية شهدت حيوية فكرية، غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي. الدولة العباسية في شبابها امتلكت مقومات القوة المادية والعسكرية والفكرية. انفتحت على الفكر الإنساني، وهفا إلى عاصمتها الفقهاء والمفكرون وعلماء اللغة. كانت قصور الحكام منتدياتٍ للحوار، يلتقي فيها المفكرون والشعراء والسياسيون بمن فيهم الخلفاء والوزراء. عصر عقل وإبداع واجتهاد في الفقه، والأدب، والفلسفة والسياسة. زمن له حمولة ضوء إنسانية فريدة، تفاعلت فيه المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة. كان ذلك القرن زمن انطلاق النهضة في أوروبا، التي وُلدت في إيطاليا واتسعت في أطراف القارة القديمة، منها الفن، والأدب، والفكر والفلسفة. خاض معارك طويلة مع سطوة الكنيسة المسيحية الجامدة، في حين بدأ الوهن يضرب كيان الدولة العباسية. الصراع على السلطة في داخل الأسر الحاكمة، وتراجع مساحة الحوار والحرية الفكرية، وقمع تيار المعتزلة وغيرها. الهيمنة على عاصمة الخلافة تعددت أطرافهم، من البويهيين إلى القرامطة، ثم طوفان الغزو التتري.

اتسعت مساحة الضوء في العقل الأوروبي، وبدأت تضيق في دنيا العرب والمسلمين. في القرن السابع عشر، أقلعت أوروبا بقوة العقل العلمي، والفلسفة، والأدب والصناعة الحديثة، في حين هوى العرب والمسلمون، في وحل الظلام البهيم. بدأ في العالم عصر جديد بعقل إنسان جديد.

أدرك المسلمون أن العقل، هو القوة القادرة على دفعهم للالتحاق بالزمن الإنساني الجديد، بعدما عاشوا محنة الاستبداد التركي والاستعمار الأوروبي.

لقد خاض العقل الأوروبي، معارك عدّة وطويلة، ضد هيمنة الكنيسة على العقل، وعنفها الدموي في وجه العلماء والمفكرين، لكن هؤلاء حققوا النصر، وهدموا أسوار الظلام الكنسِية وأشعلوا أضواء الزمن الجديد.

اجتهد مفكرون عرب ومسلمون، على امتداد أوطانهم في مقاربات مختلفة، من أجل اجتراح بُنى فكرية تقود إلى النهوض، والولوج إلى الزمن الإنساني الجديد. لكن حالة مزمنة لم تغب عن تلك الاجتهادات، وهي ثقل الماضي الموروث. التراث التاريخي والفقهي، كان ولم يزل اليد الثقيلة، التي تلامس العقول وتحرك الأقلام. في معركة تحرير العقل الأوروبي، كان الاشتباك الفكري والفلسفي والعلمي الكبير، مع الموروث الديني الكنسي الظلامي المعادي للعقل. رجل الدين المسيحي الألماني مارتن لوثر، قاد ثورة احتجاجية على الكنيسة الكاثوليكية في روما، من داخل مذهبه في مطلع القرن السادس عشر، وترجم الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية، وكتب خمساً وتسعين رسالة نشرها في ألمانيا، سقت حدائق العقل الأوروبي اليافعة، بماء قيمة الإنسان المفكر العالم المبدع. المذهب البروتستانتي، الذي انتشر في شمال أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، قاد شعوبها إلى دنيا الابتكار والصناعة والإبداع والتقدم والحرية.

في عالمنا العربي تزاحمت الاجتهادات الفكرية على الطريق نحو النهوض، والالتحاق بالدنيا الجديدة التي أبدعها العقل. المفارقة التي لم تغب، كانت وما زالت هي إشعال ضوء زمن جديد بحطب رميم.

ما كتبه أو قاله فقهاء أو مؤرخو عصور ردمها تراب الماضي، هو ما يستضيء به أغلب من حاولوا إطلاق العقل العربي من قيد الظلام الثقيل. جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده وشكيب أرسلان، ومعهم ثلة من الذين شخَّصوا مرض الأمة، لكنهم لم ينجحوا في كتابة وصفة الترياق، القادر على الشفاء من الوهن المزمن. طه حسين المصري وخير الدين التونسي، شخصان عرفا خطوط الطول والعرض، لخريطة عقل الدنيا الجديدة التي يحلم العرب بالإقلاع نحو سمائها. طه حسين كتب الكثير في الأدب والتاريخ واللغة وغيرها، لكن الكتاب الذي أراه ومضة كانت يمكن أن تكون ناقوس يقظة، هو كتاب «مستقبل الثقافة في مصر». نشر طه حسين هذا الكتاب في العهد الملكي المصري سنة 1937 قبل ثورة يوليو (تموز). قدم في هذا الكتاب، مفهوماً موضوعياً للهوية بكل مكوناتها الجغرافية، والتاريخية، والثقافية والدينية. ماذا نأخذ من العقل الأوروبي الآن؟ أجاب طه حسين عن هذا السؤال، بطرح حزمة من الحقائق التي لا يُختلف حولها، وهي أن العلم مُكتسب إنساني مشاع. وقد أخذ العرب من الفلسفة اليونانية، ومن الفرس والرومان، وأخذ الأوروبيون الكثير من العلم والفلسفة والفكر العربي. قدم طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» خطة عملية واسعة للتعليم في مصر، تتضمن توحيد التعليم بعيداً عن المذاهب الدينية، والتدريب بما يؤهل الشباب للدخول في معترك الصناعات. لو تبنت مصر هذا الكتاب، لحققت نهضة تأسيسية شاملة. السياسي والمفكر خير الدين التونسي، في كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وضع معالم تضيء نحو المسالك التي تقود إلى النهوض، اقتداءً بما سلكته أوروبا. في السنوات الأخيرة، تلاطمت بحار التفكير العربي، بموجات من الأفكار التي تتحرك نحو نقد العقل الموروث. من محمد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وفؤاد زكريا، وعبد الله العروي ومراد وهبة وغيرهم. المأساة أن تلك الأفكار لم يكن لها فعل يغير ما راكمته عصور الظلام، في حين تندفع أعاصير التطرف والإرهاب الذي يلبس غلالة الجهل المقدس الموروث. وتستمر المعارك من أجل عقل ينير، ويحقق النهوض.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من أجل عقل ينير من أجل عقل ينير



GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

GMT 14:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

السلاح... أو حين يكون المكسب صفراً والهزيمة مطلقة

GMT 14:28 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من سيلحق بكندا... في «التعامل بالمثل» مع ترمب؟

GMT 14:24 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وخصومه في «حيْصَ بيْص»

GMT 14:23 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

سموتريتش وحقد الجِمال

GMT 14:19 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

القطبية الصينية ومسار «عالم الغابة»

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 19:13 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة
المغرب اليوم - ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة

GMT 17:33 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية
المغرب اليوم - باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية

GMT 22:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل
المغرب اليوم - نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل

GMT 17:49 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها
المغرب اليوم - بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها

GMT 19:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب
المغرب اليوم - الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب

GMT 15:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 02:18 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

سهام العزوزي تتوج بلقب مسابقة "ميس أمازيغ" في دورتها الخامسة

GMT 14:13 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

فرقة «رضا» تتألق في الأقصر عاصمة السياحة لعام 2016

GMT 23:59 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

تعرف على تفاصيل طلاق "أبو جاد" وزوجته سارة

GMT 19:07 2019 السبت ,22 حزيران / يونيو

الكرنب يحتوي على مغذيات تحارب مرض الخرف

GMT 13:24 2019 السبت ,01 حزيران / يونيو

ودي تكشف عن موديلات S من سياراتها Q5 وA6 وA7

GMT 14:44 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

حرّاس صدام حسين يكشفون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته

GMT 07:20 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الأغذية منخفضة الكربوهيدرات تسهم في علاج السكري

GMT 16:22 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

العروبة الإماراتي يتعاقد مع ياسين الصالحي لموسم واحد

GMT 20:51 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تستعد لتنظيم بطولة العالم للجمباز بمشاركة إسرائيلية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib