من زمن السيوف إلى زمن الحروف

من زمن السيوف إلى زمن الحروف

المغرب اليوم -

من زمن السيوف إلى زمن الحروف

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

سنة 1440م اخترع يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة في ألمانيا. مباشرةً أصدر السلطان العثماني بايزيد الثاني فرماناً يحرّم فيه على المسلمين استخدام المطبعة في كامل الإمبراطورية العثمانية، مبرراً المنع بالخوف من استخدام هذا الاختراع النصراني، في تزوير النصوص الدينية الإسلامية المقدسة. نشط رجال الدين والخطَّاطون والنسَّاخ في دعم الفرمان السلطاني، وهناك عامل آخر كرَّس عداء الباب العالي للاختراع الجديد، وهو الخوف من انتشار المعلومات، ووصولها إلى العامة في أرجاء الإمبراطورية الواسعة.

القرن الخامس عشر كان بداية ارتفاع فنارات التعليم والتنوير في أوروبا. بدأت المواجهة بين رجال العلم والفلسفة، ورجال الدين المسيحي تتحرك بسرعة وبقوة، لمصلحة الأولين وتراجعت سطوة الكنيسة وهيمنتها على العلم والفكر والثقافة والتعليم. بدأت المدارس النظامية والجامعات تنتشر في أوروبا، وتراجعت الأمية، وتنقل المفكرون والأساتذة بين الجامعات الأوروبية، واتسع نشاط الترجمة في جميع المجالات الفكرية والعلمية، واتسعت كتابة الكتب ونشرها في القارة الأوروبية. المطبعة كانت آلة تأسيس الزمن الأوروبي الجديد، بضوئه الذي أشعل الأنوار، وحوَّل المعرفة وجبة يومية للعقل. سنة 1517م أطلق القس الألماني مارتن لوثر ثورته ضد كنيسة الفاتيكان، وترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية. كانت آلة الطباعة سلاحه السحري، الذي قصف به أركان الاستبداد الديني الذي باع صكوك الغفران للفقراء الأميين. لم تعد النصوص الدينية المكتوبة باللغة اللاتينية الطلاسم المقدسة التي يغمض البسطاء في حضرتها عيونهم، ويغلقون عقولهم. مثَّلت حركة مارتن لوثر الاحتجاجية الاندفاعة الأوروبية الثانية، بعد حركة النهضة التي قادتها أسرة آل ميدتشي في فلورنسا الإيطالية.

آلة الطباعة كانت المفتاح العلمي، الذي شرَّع باب العصر الإنساني الجديد. تحرك كل شيء في أوروبا، العقول والحواس وطاقات الناس. صارت الدنيا غير الدنيا بمن فيها وما فيها.

في حين استمر تحريم آلة الطباعة في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية إلى سنة 1725م، حين سُمح باستخدامها في طباعة الكتب الدينية المسيحية واليهودية فقط. على مدى قرون ثلاثة، حُرم المسلمون بمن فيهم العرب من رؤية ضوء الزمن الجديد، الذي أشعلته المطبعة. كانت الإمبراطورية العثمانية، حتى القرن الخامس عشر، القوة العسكرية العالمية الضاربة التي لا تقهر. قوة عسكرية بها مئات الآلاف من المقاتلين الأشداء، ضمت إنكشارية من مختلف الأعراق. البلقانيون والألبان والعرب والأتراك، يستخدمون البنادق والمدافع والخيالة السباهية والمشاة.

سنة كانت المواجهة الفاصلة الحاسمة بين عصرين، عصر السيوف وعصر الحروف. معركة زنتا الكبرى في صربيا سنة 1697م، حيث اصطدم عصران، أحدهما قادم وآخر يغادر. لم تكن الموقعة التاريخية مجرد حرب بين قوتين، بل كانت مخاضاً نارياً عنيفاً في أحشاء زمن يتخلق فيه زمن جديد. معركة شكَّلت بداية تهاوي الإمبراطورية العثمانية عسكرياً وسياسياً وحضارياً. في نهاية القرن السابع عشر، كانت أوروبا تشهد تحولاً عميقاً، لم يقتصر على المجال السياسي والعسكري فحسب، بل شمل العلم والفكر والفلسفة والاقتصاد والبناء المجتمعي. أعادت أوروبا بناء كل شيء على أسس عقلانية، أنتجتها أفكار عصر التنوير المبكر. في حين ظلّت الإمبراطورية العثمانية، حبيسة قفص الموروث التقليدي، وفقدت فاعليتها في الداخل والخارج.

منذ بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر، بدأت أعراض الوهن والترهل، تبرز على كامل جسد الإمبراطورية العثمانية. وبدأت تفقد تدريجياً سيطرتها على أطرافها الأوروبية، وانخفضت قدرات الجيش الإنكشاري الذي كان يوماً رمز الرعب في القارة الأوروبية. عمَّ الفساد مفاصل الإمبراطورية، وتحولت المؤسسات حلباتِ صراعٍ على المصالح بين النخب الفاسدة، وتفشت الرشى والمحسوبية، وتحكمت القرابة في سلم الوظائف. في الجهة المقابلة، كانت أوروبا تشهد صعوداً شاملاً بسرعة، شكَّلت قوتها الجديدة بعقل جديد. بدأت أسرة آل الهابسبرغ في النمسا تجني ثمار العصر الأوروبي الحديث. تنظيم عسكري حديث صارم، وإدارة بيروقراطية فاعلة منضبطة، ساعد كل ذلك على بناء تحالف عسكري أوروبي فاعل. الهدف الأوروبي الاستراتيجي، هو تحرير أوروبا من الوجود العثماني.

كانت الدولة العثمانية تتصرف كأنها لا تزال في كامل قوتها العسكرية، ولم تدرك حجم التطور الذي شهدته أوروبا. ففي الوقت الذي كانت فيه المدفعية الأوروبية، تدار بأنظمة دقيقة، مع مناورات يجرى التخطيط التفصيلي لها. في معركة زنتا بين الجيش العثماني والجيش النمساوي، كان السلطان مصطفى الثاني يقود الجيش العثماني المكون من ثمانين ألف مقاتل، والأمير أوجين يقود الجيش النمساوي المكون من ثلاثين ألفاً. جيش عثماني عرمرم بعقل وسلاح أكله الصدأ، يقابله جيش محدود العدد يقاتل بعقل وعلم وتخطيط وليد الحداثة. كانت معركة بين زمنين، هُزم الجيش العثماني وقتل وأُسر وغرق وهرب منه الآلاف.

لقد دفع عقل التحريم الثمن وهو الهزيمة. عندما أصدر السلطان بايزيد الثاني فرمان تحريم استعمال المطبعة، حرم شعب بكامله من الدخول إلى زمن جديد لم تشهده الدنيا من قبل. المطبعة جعلت من الحروف سرباً للعقول الزاجلة، التي تتحرك في فضاءات عالمية مستطرقة، تهب نور العلم والفكر لكل الإنسانية. معركة زنتا كانت الخط الذي فصل بين عصرين، عصر صدئت فيه السيوف، وتوهجت فيه الحروف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من زمن السيوف إلى زمن الحروف من زمن السيوف إلى زمن الحروف



GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

GMT 14:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

السلاح... أو حين يكون المكسب صفراً والهزيمة مطلقة

GMT 14:28 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من سيلحق بكندا... في «التعامل بالمثل» مع ترمب؟

GMT 14:24 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وخصومه في «حيْصَ بيْص»

GMT 14:23 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

سموتريتش وحقد الجِمال

GMT 14:19 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

القطبية الصينية ومسار «عالم الغابة»

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 19:13 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة
المغرب اليوم - ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة

GMT 17:33 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية
المغرب اليوم - باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية

GMT 22:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل
المغرب اليوم - نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل

GMT 17:49 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها
المغرب اليوم - بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها

GMT 19:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب
المغرب اليوم - الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب

GMT 15:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 02:18 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

سهام العزوزي تتوج بلقب مسابقة "ميس أمازيغ" في دورتها الخامسة

GMT 14:13 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

فرقة «رضا» تتألق في الأقصر عاصمة السياحة لعام 2016

GMT 23:59 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

تعرف على تفاصيل طلاق "أبو جاد" وزوجته سارة

GMT 19:07 2019 السبت ,22 حزيران / يونيو

الكرنب يحتوي على مغذيات تحارب مرض الخرف

GMT 13:24 2019 السبت ,01 حزيران / يونيو

ودي تكشف عن موديلات S من سياراتها Q5 وA6 وA7

GMT 14:44 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

حرّاس صدام حسين يكشفون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته

GMT 07:20 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الأغذية منخفضة الكربوهيدرات تسهم في علاج السكري

GMT 16:22 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

العروبة الإماراتي يتعاقد مع ياسين الصالحي لموسم واحد

GMT 20:51 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تستعد لتنظيم بطولة العالم للجمباز بمشاركة إسرائيلية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib