بقلم - عبد المنعم سعيد
الأسبوع الماضى كان مناسبة لاسترجاع تاريخين مثلا علامة فارقة فى التاريخ المصرى المعاصر: أولهما فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣؛ وثانيهما فى ٣ يوليو ٢٠١٣. فى الأول جرت ثورة الملايين من المصريين الذين خرجوا رافضين منهجا ورؤية لم تكن مطلوبة من الشعب المصرى تخص الإخوان المسلمين؛ وفى الثانية تكونت أول جبهة وطنية مصرية لا تطيح بنظام فاسد فحسب، وإنما أكثر من ذلك تخط طريقا جديدا لمصر. قراءة هذا المنعطف التاريخى المهم تستدعى قراءة التاريخ المصرى المعاصر خلال الفترة من ٢٠١١ حتى ٢٠٢١؛ أى خلال السنوات العشر التى تلت ثورة يناير ٢٠١١ التى كانت على النظام السياسى القائم آنذاك، وقامت على أكتاف التجمعات البشرية الكثيفة للشباب المصرى. هذه التجمعات بينما نجحت فى إسقاط النظام السابق، فإنها لم تفرز مشروعا وطنيا شاملا، واعتمدت بشكل كبير على تيار آخر قادم من جوف الإسلام السياسى ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين والتى كان لديها مشروع كامل الأركان يستند إلى حد كبير إلى ما جرى استخلاصه من التجربة الإيرانية، وتجسد ذلك فى دستور ٢٠١٢ والذى كان يعنى تغيير الهوية المدنية للدولة المصرية؛ ودفع بشدة إلى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ التى استندت إلى «جبهة وطنية» واسعة ضمت القوات المسلحة وتنظيمات الشباب «تمرد»، والمجتمع المدنى، والأزهر الشريف والكنيسة القبطية، وتجمع الأحزاب الوطنية ممثلة فى «جبهة الإنقاذ الوطنى» التى ضمت أحزابا مصرية.
الوضع مثّل منعطفا جديدا فى التاريخ المصرى ممثلا تيارا «إصلاحيا» لا يقبل بالعودة إلى النظام القديم، ويسعى فى نفس الوقت للنهوض بمصر وتقدمها من خلال عملية تحديث واسعة النطاق، مستعينا فى ذلك بفكر الجهود الإصلاحية التى وضعت خلال عقود سابقة بما فيها الخطة الشاملة للتخطيط العمرانى لمصر. ظهر ذلك أولا خلال الفترة الانتقالية فى العام الأول بعد «ثورة ٣٠ يونيو» التى قادها الرئيس عدلى منصور؛ وثانيا أخذت الدولة زخما خاصا فى الإصلاح مع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى الرئاسة فى ٣٠ يونيو ٢٠١٤، وما طرحه من «رؤية مصر ٢٠٣٠ ». ثلاثية «الإصلاح والاستقرار والسلام» التى قامت عليها «الرؤية» كانت هى التى أنقذت دولاً وأقاليم بأسرها من الفوضى والتخلف والحروب والعنف والتطرف، سواء كان ذلك فى أوروبا خلال القرن التاسع عشر فى أعقاب الثورة الفرنسية؛ أم مرة أخرى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. امتد المثال فى جنوب شرق آسيا فى نهاية سبعينيات القرن الماضى عندما انتهت الحرب الفيتنامية، واستيقظت أمم وشعوب على أن استمرار التيارات الراديكالية اليسارية لا يعنى إلا الدمار والصراع، فكانت هى التى ولّدت نموراً وفهوداً اختطت طرقها الآسيوية الخاصة نحو التقدم والرفعة. أمريكا الجنوبية بدأت تفتح عيونها على منتجات الثورات الكوبية والبوليفية والفنزويلية من تيارات يسارية متناحرة، وردود فعلها التى تختلط فيها مافيات المخدرات بأشعار الثورة المثالية؛ ومع قرب نهاية القرن الماضى بدأت تدريجياً فى إنتاج هذه الخلطة التى تعنى التنمية والحداثة. لم تنضج التجربة بعد فى كافة أركان أمريكا الجنوبية، ولكن علاماتها الإيجابية ظاهرة فى البرازيل وشيلى والمكسيك. وفى الشرق الأوسط، فإن إطلالة هذا المزيج جاءت، من مصر، ومن شخصية لم تكن ظاهرة بين الضباط الأحرار، وهى الرئيس محمد أنور السادات الذى جاء إلى السلطة فى مطلع عقد السبعينيات ليتعامل مع وطن محتل، وأمة مرهقة من تكلفة حروب. وبعد أن خاض حرباً ظافرة لم يستغلها فى مجد إعلامى زائف، وإنما حملها إلى ضفاف السلام واسترداد الأرض المحتلة كاملة غير منقوصة. فى الوقت ذاته بدأ الرئيس المصرى فى سياسة الانفتاح الاقتصادى التى كانت الترجمة العربية لمحاولات متعددة جرت فى الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا للخروج من أسر الفقر والحروب التى لا تنتهى والثورات الثقافية وغير الثقافية التى ترتج لها البلدان. ولكن الرجل كان نصيبه هو «ثورة الخبز» فى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، ثم الاغتيال بعد أن أقام السلام. لم تكن البيئة المصرية قد نضجت بالقدر الكافى؛ ولا كان الإقليم جاهزاً لموجة من الإصلاح العميق، وتجاوز أفكار اليسار واليمين، حيث أشكال كثيرة من الحماقة التى تعيش فيها الشعوب فى أحلام الكلمات وروائع القصائد وحماسية الشعارات بديلاً عن «الإصلاح»، حيث العمل الجاد، والتغيير المتدفق بالإنتاج.
من المدهش أن ما حدث فى مصر اعتبارا من ٣٠ يونيو ٢٠١٣ و٣ يوليو ٢٠١٣ كان فاتحة لتغييرات عميقة فى الإقليم العربى. مسيرة الإصلاح والاستقرار والسلام، وجدت لها ضفافاً لدى عرب الشرق الأوسط فى منتصف العقد الماضى بعد سنوات من فوضى الثورات العربية، وتجاوز التطرف الدينى كل الحدود فى رجعية وتخلف التقاليد، وعنف فى الممارسات، وما بات مؤكداً من إفلاس ثورات سابقة أخذت أشكالاً قومية، ولكنها بعد ذلك لم تثمر إلا قليلاً من التغيير وكثيراً من العقم. أخذ التيار الإصلاحى العربى أشكالاً متماثلة فى «رؤية» كثيراً ما وضعت سقفاً زمنياً (٢٠٣٠) لتحقيق الكثير من التغييرات الجذرية فى البناء الاقتصادى والفكر الدينى وتحقيق الاستقرار الداخلى الذى يتيح تعبئة الموارد القومية.