الأمير وترمب والطيب صالح

الأمير وترمب والطيب صالح

المغرب اليوم -

الأمير وترمب والطيب صالح

مأمون فندي
بقلم - مأمون فندي

ليس دائماً التعليم الجيد أو التنظير المتماسك هو الحل، فأحياناً يأتي أناس بسطاء بعيون صافية، يتوصلون إلى نتائج أرهقت العلماء سنينَ طوالاً. معظم مَن في سني، ومَن رحلوا قبلنا، عاصروا معركة التحديث والتغريب في الأكاديمية الغربية: هل هما متلازمان؟ أم يمكن لأحدهما أن يحدث دون الآخر «التحديث والغربنة».

وكان الحوار ينحاز دوماً إلى الرؤية الغربية التي تقول إنه لا يمكن للتحديث السياسي والاجتماعي أن يحدث دون تغريب؛ بمعنى تبنِّي القيم الغربية، من العلمانية، إلى فصل الدين عن الدولة، وما بينهما.

ثم جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الرياض، وأعلن للعالم أن التحديث يمكن أن ينبت في بيئة محلية كشجرة أصيلة، دون أن تُسقى بماء التغريب، أو تأتي كشتلة إلى أرض جديدة. فالتربة صالحة، تُسقى من ينبوع محلّي، ينبع من المنظومة القيمية للمجتمع؛ في إشارة إلى تجربة تحديث سعودية الملك سلمان، التي قادها الأمير محمد بن سلمان من خلال «رؤية 2030» التي تنفَّذ بوعي وصرامة. صفّق الحضور بفطرتهم النقية لكلمات ترمب، وكأنهم كانوا شهوداً على معركة ظلت، لعقود طويلة، محل جدل في الأكاديمية الغربية.

معركة كافح فيها علماء السياسة والاجتماع والتنمية من الجنوب العالمي، أو من العالم الثالث، سنينَ طوالاً من أجل إثبات أن التحديث يمكن أن يحدث دون غربنة. وكان مِن بين الأساتذة الذين يدفعون في هذا الاتجاه ممن عاصرتهم: الدكتور علي مزروعي، الكيني الأميركي أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميشيغان، وكذلك إدوارد سعيد، وسمير أمين، وفاندانا شيفا، وغيرهم، وقد جاءوا من خلفيات ثقافية مختلفة.

تعبوا كثيراً في محاولة إثبات أن الحداثة، كعملية تقنية وفنية، يمكن أن تحدث دون التشرب بالقيم الغربية، سواء أكانت بروتستانتية أم كاثوليكية أم خليطاً منهما. ولم تترك مقولاتهم وحُججهم إلا رسوماً كالهيروغليفية على صخور الحداثة الغربية.

وجاء ترمب إلى الرياض ليقول الشيء نفسه، لكن قوله كان مسنوداً بقوة الدولة العظمى الوحيدة في النظام العالمي. قال ترمب إن تجربة السعودية تجربة محلية ناجحة كما هي: «صنعتم معجزتكم بأنفسكم، والذين جاءوا بالتدخل الخارجي دمّروا بلداناً إلى جواركم»؛ في إشارة إلى حرب المحافظين الجدد على العراق وخراب البصرة.

قالها ترمب، ولا أظنه كان يقرأ نصاً، بل كان ما يقوله خروجاً على النص. كان يتكلم بعيون صافية، بما قاله أساتذة كبار من العالم الثالث داخل أروقة الأكاديمية الغربية، عن بلادهم التي يعرفونها معرفة حميمية ومحلية، على حد قول عالِم الأنثروبولوجيا كليفورد غيرتز في نظريته عن «المعرفة المحلية (Local Knowledge)».

صفاء عيون ترمب، رجل العقارات والصفقات، كان أقرب إلى فهم أهل البلاد بواقعهم من كثير من قامات الاستشراق. وهذا لا يجعل من ترمب متنبئاً لدعوة الاعتماد على القدرات المحلية لبناء الدولة، فأهل مكة أدرى بشعابها، وأهل الصحراء عيونهم أكثر صفاء؛ فهم قوم يميّزون دوماً بين السراب والماء، حتى في خطبة ترمب نفسها في الرياض.

فالحداثة التي يوطنها الأمير محمد بن سلمان، هي أكثر مما رآه ترمب، إذ هي رؤية محلية أكثر اتساعاً أفقياً ورأسياً، تمزج ما بين الحداثة الغربية والمحلية بتنويعاتها في تلك القارة التي نعرفها بالمملكة العربية السعودية، والتي تتعدّد فيها الثقافات المحلية من الجنوب إلى المنطقة الشرقية، ومن الحجاز والمنطقة الغربية إلى حائل في الشمال، إلى قلب الدولة في نجد. تجربة محمد بن سلمان، تحت قيادة الملك سلمان، تتسع للجميع.

في عام 1966، وبعد نجاح روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، نشر الأديب السوداني الطيب صالح رواية قصيرة لا يعرفها الكثيرون بعنوان «دومة ود حامد»، وهي حكاية قصيرة نفذت إلى قلب حوار الحداثة والتحديث والتغريب، برؤيةٍ تشبه تلك التي فشل في رؤيتها أساتذة كبار في السياسة والاجتماع والأنثروبولوجيا، ونجح فيها ترمب.

جوهر الرواية هو رغبة حكومة السودان التي تتبنى التغريب آيديولوجية في تحديث منطقة «ود حامد»، وأرادت أن تزيل شجرة الدوم التي وُجدت منذ نشأة القرية، كما أرادت أن تُزيل ضريح «ود حامد» الذي يجاور الدومة (التقاليد المحلية) من أجل إقامة مشروع ميكنة للمياه، ومرسى، ومحطة لباخرة تقلّ الناس من شرق النيل إلى غربه (التحديث).

واشتعل النقاش في البرلمان، وتوترت الأوضاع الداخلية - كما هي متوترة في سودان اليوم - من أجل إحلال الجديد مكان القديم. وفي نهاية الرواية يقول أحد شخصياتها: «لن تكون هناك ضرورة لقطع الدومة، ليس ثمة داعٍ لإزالة الضريح... المكان يتسع لكل هذه الأشياء، المكان يتسع للدومة، والضريح، ومكنة المياه، ومحطة الباخرة».

إنَّها حركة تحديث عملاقة وشاملة دشنتها السعودية، وها هي تسير فيها بخطى واثقة، وتنجز في فضائها نقلة نوعية فريدة ماثلة للناظرين.

يبقى أن نقول إنَّ هناك قيماً إنسانية مشتركة بين الشرق والغرب ليست موضع شك أو خلاف؛ لأنها تهدف للصالح العام، وليست محل اعتراض أو خلاف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأمير وترمب والطيب صالح الأمير وترمب والطيب صالح



GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

GMT 14:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

السلاح... أو حين يكون المكسب صفراً والهزيمة مطلقة

GMT 14:28 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من سيلحق بكندا... في «التعامل بالمثل» مع ترمب؟

GMT 14:24 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وخصومه في «حيْصَ بيْص»

GMT 14:23 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

سموتريتش وحقد الجِمال

GMT 14:19 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

القطبية الصينية ومسار «عالم الغابة»

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 19:13 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة
المغرب اليوم - ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة

GMT 17:49 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها
المغرب اليوم - بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها

GMT 19:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب
المغرب اليوم - الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب

GMT 15:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 02:18 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

سهام العزوزي تتوج بلقب مسابقة "ميس أمازيغ" في دورتها الخامسة

GMT 14:13 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

فرقة «رضا» تتألق في الأقصر عاصمة السياحة لعام 2016

GMT 23:59 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

تعرف على تفاصيل طلاق "أبو جاد" وزوجته سارة

GMT 19:07 2019 السبت ,22 حزيران / يونيو

الكرنب يحتوي على مغذيات تحارب مرض الخرف

GMT 13:24 2019 السبت ,01 حزيران / يونيو

ودي تكشف عن موديلات S من سياراتها Q5 وA6 وA7

GMT 14:44 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

حرّاس صدام حسين يكشفون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته

GMT 07:20 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الأغذية منخفضة الكربوهيدرات تسهم في علاج السكري

GMT 16:22 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

العروبة الإماراتي يتعاقد مع ياسين الصالحي لموسم واحد

GMT 20:51 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تستعد لتنظيم بطولة العالم للجمباز بمشاركة إسرائيلية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib