الدولة السردية بين البناء والرواية

الدولة السردية... بين البناء والرواية

المغرب اليوم -

الدولة السردية بين البناء والرواية

مأمون فندي
بقلم - مأمون فندي

عند الحديث عن الدولة العربية الحديثة، يتكرّر سؤال يبدو أزلياً: هل نحن بصدد بناء مؤسسات حقيقية، أم نكتب فقط قصة عن الدولة؟ هل نعيش في كيان سياسي فعلي، أم ضمن سردية عن الدولة تُبثّ على الشاشات وتُروَّج كحكاية متماسكة؟

هذا السؤال ليس جديداً. لعقود، ظلّ المفكرون والصحافيون العرب يسألون: أين أخطأنا في بناء الدولة؟ وكيف نُصلّح ذلك؟ لكنّ مقاربتي اليوم تختلف؛ إذ أطرح مفهوماً يُركّز على العلاقة بين اللغة والسلطة، بين ما يُقال عن الدولة وما يُنجز فيها، وهو ما أسميه: الدولة السردية.

«الدولة السردية» لا تعني اختراعاً جديداً، بل هي تكثيف لمفاهيم مألوفة في نظريات السياسة. بنديكت أندرسون، في «الجماعات المتخيلة»، أشار إلى أن الأمم لا تُبنى فقط بالمؤسسات، بل عبر المخيلة الجمعية، بفضل ثورات الطباعة والتوزيع. مفكرو ما بعد الحداثة، من ليوتار إلى فوكو وبودريار، رأوا أن الدولة تُستبطن عبر الخطاب، وأن الصورة قد تسبق الحقيقة أحياناً.

هذا واضح تماماً في العالم العربي، حيث الدولة، في كثير من الأحيان، تظهر في شكلها الإعلامي أكثر مما تُلمس في الواقع المعيشي. في لبنان، مثلاً، تُنتج سردية تلفزيونية تُشبه سويسرا، لكنّ الواقع الإداري والسياسي يُشبه اليمن في لحظات التفتت.

على الجهة الأخرى، هناك نموذج الفتور في دول مثل مصر والعراق. هذه دول حقيقية في التاريخ والجغرافيا، لكنها تعاني من ضعف الخيال السياسي. هناك إنفاق على البنى التحتية، ومشاريع كبرى، لكنها لا تُترجم إلى رضا. الدولة هنا تُنتج سردية صاخبة بالإعلام، لكنها تُدار بلغة صامتة لا يصل صداها إلى المواطن.

بين هذين النموذجين تقف السعودية. هي دولة ذات وزن سكاني وجغرافي، وتاريخ سياسي طويل، من الدولة السعودية الأولى إلى الثالثة. ومن هذا العمق انطلقت «رؤية 2030» كسردية ومشروع تحول في آنٍ واحد. تحاول المملكة أن تتجنّب سذاجة النموذج السردي وتراخي نموذج الفتور، بالجمع بين تحديث اجتماعي واقتصادي، ومراقبة دقيقة لمؤشرات الأداء، ووعي بتحديات التحول.

فكرة سردية الدولة تعيدنا إلى سؤال أكثر جوهرية: على أي أساس نبنيها؟ الصورة لا تكفي. ولا يمكن استبدال المشروعية السياسية بهوية بصرية مهما بلغت تكلفتها. فالدولة ليست عرضاً مرئياً ولا علامة تجارية. إنها علاقة دائمة بين المواطن ومؤسساته، تتجسد في ثقة، ومساءلة، وشفافية.

في الكلاسيكيات السياسية، من ماكيافيلي إلى هوبز، كانت الدولة تحتكر العنف وتضمن النظام. أما في عالم اليوم، فلا يكفي الاحتكار، بل لا بدّ من سردية تُقنع وتُدمج. لكن السردية وحدها لا تكفي أيضاً. لا بد أن تقوم على أركان: شرعية تُبنى على الثقة، لا الخوف؛ نخب سياسية قادرة على التجديد، لا مجرد إعادة التدوير؛ خيال سياسي ينبع من الواقع، لا يستورد من الخارج؛ وأساس عادل للكرامة، تُترجم إلى تعليم، وصحة، وفرص متكافئة.

خطر الدولة السردية يكمن في تحوّل الحكاية إلى قناع يخفي العجز. حين تتحوّل الدولة إلى مشروع إخراجي يُديره مخرجو الدراما لا صناع السياسات، فإننا نعيش في صورة بلا أصل. حينها، يصبح الإنفاق على السرد أهم من الإنفاق على الفعل، ويتضخم الإعلام بينما تضمر المؤسسات. والنتيجة: دولة مشرقة في الشاشات، لكنها صامتة في الواقع.

هذه الفجوة بين الرواية والأداء هي ما حذّر منه تيد روبرت غير في كتابه الكلاسيكي «لماذا يثور الناس؟». الثورات لا تأتي من الفقر وحده، بل من الفرق بين التوقعات والواقع، بين ما تُروّجه الدولة وما يشعر به الناس في يومهم العادي.

الدولة الحديثة، كي تكون فاعلة، لا يكفي أن تكون دولة السردية، بل يجب أن تكون دولة الإنجاز والأداء. لا يكفي أن تحكي قصة، بل أن تكتبها مع الناس، لا عنهم. فالدولة التي تفتن نفسها بسرديتها قد تجد وجهها يوماً ما ملتصقاً بمرآة مكسورة أصابها سرطان السردية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة السردية بين البناء والرواية الدولة السردية بين البناء والرواية



GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

GMT 14:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

السلاح... أو حين يكون المكسب صفراً والهزيمة مطلقة

GMT 14:28 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من سيلحق بكندا... في «التعامل بالمثل» مع ترمب؟

GMT 14:24 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وخصومه في «حيْصَ بيْص»

GMT 14:23 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

سموتريتش وحقد الجِمال

GMT 14:19 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

القطبية الصينية ومسار «عالم الغابة»

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 19:13 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة
المغرب اليوم - ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة

GMT 17:49 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها
المغرب اليوم - بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها

GMT 19:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب
المغرب اليوم - الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب

GMT 15:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 02:18 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

سهام العزوزي تتوج بلقب مسابقة "ميس أمازيغ" في دورتها الخامسة

GMT 14:13 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

فرقة «رضا» تتألق في الأقصر عاصمة السياحة لعام 2016

GMT 23:59 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

تعرف على تفاصيل طلاق "أبو جاد" وزوجته سارة

GMT 19:07 2019 السبت ,22 حزيران / يونيو

الكرنب يحتوي على مغذيات تحارب مرض الخرف

GMT 13:24 2019 السبت ,01 حزيران / يونيو

ودي تكشف عن موديلات S من سياراتها Q5 وA6 وA7

GMT 14:44 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

حرّاس صدام حسين يكشفون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته

GMT 07:20 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الأغذية منخفضة الكربوهيدرات تسهم في علاج السكري

GMT 16:22 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

العروبة الإماراتي يتعاقد مع ياسين الصالحي لموسم واحد

GMT 20:51 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تستعد لتنظيم بطولة العالم للجمباز بمشاركة إسرائيلية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib