الست والفلاحة والشيخة «كوكب الشرق» وثلاثة وجوه

الست والفلاحة والشيخة.. «كوكب الشرق» وثلاثة وجوه!

المغرب اليوم -

الست والفلاحة والشيخة «كوكب الشرق» وثلاثة وجوه

طارق الشناوي
بقلم - طارق الشناوي

لم تنس أبدًا أنها فلاحة، عندما سألوها بعد زيارتها إحدى الدول العربية، هل أكلت بأصابعك؟، قالت طبعًا وأنا أساسًا فلاحة ومتعودة آكل على (الطبلية)، هذا التوافق بين الظاهر والباطن ظل كامنًا فى كل اختياراتها ومواقفها فى الحياة.

إنها ليست فقط الفلاحة ولكنها وبنفس الدرجة الشيخة التى تحفظ القرآن وتردد التواشيح الدينية، أعلنت كثيرًا عن رغبتها تسجيل القرآن بصوتها، لعدد من كبار العلماء، أغلبهم أكد لها جواز ذلك دينيًّا، إلا أنه عمليًّا كانت الإجابة الرسمية هى الرفض، تعنت الأزهر وقتها ورفض السماح لها استنادًا لأحاديث ضعيفة تخاصم المنطق وعمق الدين بحجة أن (صوت المرأة عورة)، رغم أنها سجلت فى فيلم (سلامة) بصوتها (سورة إبراهيم)، بعد أن دربها الشيخ زكريا أحمد بأداء خاص، ليس من القراءات السبع المتعارف عليها، ولكن هذا لم يشفع لها، وظل تسجيل القرآن أمنية مستحيلة، لم يغادرها الأمل حتى عام 1973.

بعد رحيل عبدالناصر 1970، وبعد أن أدت أم كلثوم واجب العزاء لأسرة الرئيس، قالت لسامى شرف، سكرتير ناصر، إنها تريد الاعتزال، ولن تغنى بعد موت الزعيم، قال لها: لو سألت الرئيس وأجابك من العالم الآخر سيطلب منك مواصلة الغناء، فهل تخالفين رغبة عبدالناصر.

فى تلك اللحظة قررت أن ترثى الزعيم، ووجدت أن الشاعر القادر على الإنجاز هو نزار قبانى، الذى سبق أن تغنت بكلماته بعد الهزيمة (أصبح عندى الآن بندقية)، نزار ناصرى النزعة، ليس من دارويش الناصرية ولكنه كان مدركًا أن ناصر لديه هم عربى، حتى لو تعددت أخطاؤه، ولم ينس نزار أبدًا كيف وفر له ناصر الحماية بعد أن تلقى العديد من الطعنات، عندما بدأ بعض أبناء (الكار) فى محاولة إبعاده عن مصر، بعد أن صار هو الأكثر طلبًا بين الشعراء، وحققت قصيدة (أيظن؟) نجاحًا طاغيًا، كانت نجاة قد عرضتها فى البداية، على كل من كمال الطويل ومحمد الموجى، ولم يتحمس أى منهما، إلا أن عبدالوهاب استطاع تقديم المعادل الموسيقى المبهر، الذى حقق نقلة شعبية، للأداء بالفصحى الذى ينافس فى بساطته العامية، وكانت جرأة الكلمات مثل (حتى فساتينى التى أهملتها) واحدة من المقاطع التى أثارت لغطًا وأثارت أيضًا فى نفس الوقت غيرة بعض الشعراء.

اكتشف نزار أنهم وضعوه فى القائمة السوداء، بسبب ديوانه (هوامش على دفتر الهزيمة) الذى كتبه بعد نكسة 67، الذى يقول فى مطلع قصائده (أنعى لكم يا أصدقائى/ اللغة القديمة/ والكتب القديمة / أنعى إليكم كلامنا المثقوب / كالأحذية القديمة / ومفردات العهر/ والهجاء والشتيمة)، ولم يجد من ينقذه مما وصفوه بأنه أغضب عبدالناصر سوى عبدالناصر، وأرسل خطابًا لعبدالناصر، مؤكدًا فى سطوره أنه لم يهن أبدًا الوطن، فهو يكتب بحب وينطلق من نفس الخندق الذى كان رافضًا للاستسلام، مطلًّا على مصر من نفس شرفة عبدالناصر.

ولأن عبدالناصر كان مدركًا أن إعلان الغضب بسبب الهزيمة، حق لكل عربى، قرر أن يعيد قصائده مجددًا إلى كل موجات الإذاعة والتليفزيون المصرية، تردد وقتها اسم الشاعر صالح جودت، والذى كان قريبًا من الدولة، قيل إنه لعب هذا الدور، وتمكن من إبعاد نزار من الصورة بحجة أنه ينتقد وبغمز ويلمز قاصدًا ناصر.

وعادت قصائد نزار تملأ الأثير، ولهذا عندما طلبت منه أم كلثوم الكتابة عن ناصر بعد أيام من رحيله على الفور استلهم (رسالة إلى الزعيم)، بعد أن تذكر بالفعل رسالته السابقة إلى الزعيم، مع انقلاب الموقف بالطبع وكتب (عندى خطاب عاجل إليك).

يستهل نزار أبياتها بتلك الكلمات (عندى خطاب عاجل إليك / من أرض مصر الطيبة / من ليلها المشغول بالفيروز / عندى خطاب عاجل إليك / ولكننى يا سيدى/ لا أعرف العنوان).

المعلن أن أم كلثوم بعد أن سجلت القصيدة بلحن رياض السنباطى، على مدى يقترب من 20 ساعة لأنها كانت تبكى بين كل مقطع وآخر، ويتم إعادة التسجيل حتى تهدأ، إلا أنها بعد قليل تعاود البكاء، ويضطر السنباطى لإعادة التسجيل .

المعلن أنها طلبت بإرادتها وبدون إملاء من أحد عدم إذاعة القصيدة، هل من الممكن أن تمنع أم كلثوم قصيدة كانت هى الدافع والمحرك لها؟ نظريًا نعم بعد عودتها لبيتها فكرت، وهى فى حالة أكثر هدوءًا واستيعابًا للموقف، ووجدت أن الرئيس الحالى أنور السادات لن يتجاوب ببساطة مع تلك القصيدة، لأنها تعنى بين سطورها أن القادم لحكم الوطن لن يشغل أبدًا مكان ولا مكانة ناصر، هذا قطعًا وارد، ولكن الوارد أيضًا أن هناك من أعاد قراءة الموقف برؤية مختلفة متحررًا من الحزن، وتعامل بعقلانية. مؤكد أن أجهزة الدولة كانت على دراية بتلك القصيدة، وهناك عدد من الشخصيات التى بدأت تتوحد لدعم الرئيس الجديد، خاصة أن هناك فى النخبة، من كان يرفض أساسًا أن يتولى السادات حكم مصر، أتصور أن واحدًا من الشخصيات الفاعلة داخل الدولة طلب ربما بطريقة غير مباشرة من أم كلثوم المسارعة بإيقاف القصيدة ومخاطبة رئيس الإذاعة محمد محمود شعبان (بابا شارو) لاتخاذ اللازم ، ومن الممكن حتى بدون الرجوع لأم كلثوم أن يأمر رئيس الإذاعة بحفظ القصيدة فى الأرشيف لأجل غير مسمى.

أظن أن ذكاء أم كلثوم دفعها لاتخاذ تلك الخطوة، قبل أن يطلبها أحد، (بيدها لا بيد عمرو)، أدركت أن الرئيس القادم لن يكون سعيدًا وهى تستقبله بقصيدة رثاء، خاصة أنها تعلم أنه أيضًا (كلثومى) الهوية، السادات كان من دراويش (لست)، واحدًا ممن نطلق عليهم (سمعية)، وعشقه لفريد الأطرش معروف، كما أنه كان كثيرًا ما يستدعى إلى بيته بليغ حمدى، وروى الموسيقار محمد سلطان أن السادات أيضًا استدعاه أكثر من مرة مع زوجته فايزة أحمد، لكى يستمع إلى ألحانه، فهو عاشق للغناء وبالقطع فى المقدمة أم كلثوم.

نعم غنت أم كلثوم للملك فؤاد وابنه فاروق، ثم صارت هى الصوت الأهم والأكثر تأثيرًا فى الغناء لجمال عبدالناصر، وهو ما يمكن ترديده أيضًا على آخرين، ولكن أم كلثوم لأنها فى الذاكرة الجماعية تحظى ولا تزال بمكانة استثنائية تحيلها إلى (أيقونة) فى الوطنية والتضحية، كانت تعيش إحساسها وتصدقه، ولم تنافق أبدًا فى مشاعرها، ولا تضع الحكاية فى إطار النفاق، ولكن كانت ترى أن الملك فاروق رمز لمصر وتلك كانت أيضًا قناعتها بعبدالناصر.

أحاول معكم أن أطُل على «أم كلثوم والسلطة»، والكثير من الحكايات التى تناثرت عنها، ولكن عشقها للوطن لا أحد من الممكن أن يزايد عليها، نذرت نفسها بعد هزيمة 67 لتتحول إلى أقوى خط دفاع عن الروح المصرية، لا أعنى تبرعها بإيراد حفلاتها فى مصر والعالم العربى وباريس وغيرها لصالح المجهود الحربى، هذا ليس محل نقاش، الأهم من كل ذلك أن الناس حتى عندما كانوا يرددون معها أغانيها العاطفية، تتوهج أيضًا بداخلهم ومضات حب الوطن..

أم كلثوم كانت تتحسس خطواتها فى كل شىء، وأدركت مبكرًا أن الدولة لا غنى عنها وحرصت على أن تظل تحت المظلة، صحيح أن العلاقة فى زمن السادات والتى لم تمتد سوى أربع سنوات وبضعة أشهر، شهدت تراجعًا فى المشاعر، البعض كان يضع بتعسف معادلة سيدة الغناء العربى (أم كلثوم) فى مواجهة سيدة مصر الأولى (جيهان السادات)!.

أم كلثوم تعلم جيدًا أن الدولة تملك كل الخيوط، وإذا كانت لها مكانة خاصة فى زمن عبدالناصر وكأنها صوت عبدالناصر، فإن الأمر تغير مع السادات، ولكنها أبدًا لم تفقد عشقها للوطن، والمؤكد أن أكثر ما كان يؤلمها بعد انتصار 73 أنه كان من المستحيل عليها صحيًّا أن تقف مجددًا على المسرح لتغنى أو حتى تسجل فرحتها بالنصر، إلا أن هناك من سعى لكى ينال منها، بسبب عدم غنائها لانتصار اكتوبر.

وتناسى هؤلاء أنها القائلة (مصر التى فى خاطرى وفى فمى) وظلت حتى اللحظات الأخيرة مصر فى خاطرها وفى فمها، فهى مزيج من الفلاحة والشيخة والست العاشقة دومًا للوطن!.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الست والفلاحة والشيخة «كوكب الشرق» وثلاثة وجوه الست والفلاحة والشيخة «كوكب الشرق» وثلاثة وجوه



GMT 20:14 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

بيروت والكلام المغشوش

GMT 20:11 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

التغييرات المناخية... الأمل بالطيران في بيليم

GMT 20:05 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

انتحار الصِغار و«رقمنة» اليأس

GMT 20:00 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

الحبل السُّرِّي بين العالم العربي وحل الدولة الفلسطينية

GMT 19:47 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

عالم من الضواري

GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 21:29 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء
المغرب اليوم - العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء

GMT 17:25 2013 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"ماوس" تطفو اعتمادًا على دوائر مغناطيسية

GMT 09:48 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم "الشلال" يسعى إلى جذب زبائنه بشتى الطرق في الفليبين

GMT 23:15 2023 السبت ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سان جيرمان يكتسح ستراسبورغ بثلاثية في الدوري الفرنسي

GMT 08:04 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سلطنة عمان تحذر مواطنيها من خطورة السفر إلى لبنان

GMT 22:31 2023 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي مهدي بنعطية مرشح لمنصب مدير رياضي بفرنسا

GMT 08:16 2023 الأربعاء ,13 أيلول / سبتمبر

أبرز الأخطاء الشائعة في ديكورات غرف النوم الزوجيّة

GMT 16:04 2023 الإثنين ,11 أيلول / سبتمبر

150 قتيلا جراء الفيضانات والأمطار الغزيرة في ليبيا

GMT 13:24 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

''فريد غنام'' يطرح فيديو كليب ''الزين الزين''

GMT 20:55 2022 الخميس ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جوجل تطمح لتقديم خدماتها بألف لغة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib