سمومُ موازينِ القوى

سمومُ موازينِ القوى

المغرب اليوم -

سمومُ موازينِ القوى

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

أولُ الحكمةِ القراءةُ الدَّقيقةُ في موازين القوى. لا بدَّ منهَا إذا تعلَّق الأمر بحرب أو ثورةٍ أو انقلاب. ميزانُ القوى حكم شبه مبرم يصعب شطبه من الحساب. تجاهله يقودُ غالباً إلى نتائج كارثية. لكن القوة التي تصنعُ الانتصارَ ليست قادرة بالضرورة على ضمان الاستقرار.

قرأَ فلاديمير بوتين ميزانَ القوى. سيرتفع صراخُ الغربِ حين يستيقظ على رؤيةِ الدبابات الروسية تشطبُ ما يسمونه الحدودَ الدولية مع أوكرانيا. لكنَّ حلفَ «الناتو» لن يغامرَ بإرسال قوات للدفاع عن دولة ليست بين أعضائه. ستفرض أميركا عقوباتٍ وتطلق تهديداتٍ، لكنَّها لن ترسل قواتِها لأنَّ قراراً من هذا النوع يوقظ شبحَ الحرب العالمية الثالثة. كانت حساباتُه دقيقةً وها هوَ جيشه يلتهمُ مزيداً من الأراضي بعدما ضمن سيطرتَه على تلك التي ضمَّها إلى روسيا. لكنَّ التجاربَ تقول إنَّ القسرَ والقهر لا يمكن أن يشكلا قاعدةً لاستقرار طويل أو دائم.

لأهلِ الشرق الأوسط حكاياتٌ طويلةٌ مع موازين القوى. في 1967 لم يتوقَّف جمال عبد الناصر طويلاً عند ميزان القوى ومعادلاته. أعلنَ إغلاق مضائق تيران وحشدَ الجيش. كانتِ النتيجة الحرب التي شنتها إسرائيل وأسفرت عن احتلالِ سيناء والضفةِ الغربية ومرتفعاتِ الجولان. ضاعفتِ الحرب الخللَ الفاضح في ميزان القوى.

استنتج أنور السادات أنَّ مصرَ لا تستطيع التعايش مع احتلال سيناء. أعدَّ مع حافظ الأسد حرب 1973. ورغم إنجازات الجيش المصري، أعادت مجرياتُ الحرب تذكيرَه بالحقائق المؤلمة لميزان القوى. أدرك السادات أنَّ استعادة سيناء بالقوة متعذرة، فاختار التَّسليمَ بالتعامل مع وقائع ميزان القوى واستعادَ الأرض من بوابة كامب ديفيد. شنَّ حافظ الأسد حملة قاسية على السادات. لكنَّه سلّم في داخله بقسوة ميزان القوى الذي يمنعه من استعادة الجولان، فاختار التَّعويضَ المتاح وهو «استعادة» لبنان وإدارته والمرابطة فيه.

حين أطلقت حركةُ «فتح» رصاصتَها الأولى في اليوم الأول من يناير (كانون الثاني) 1965، كان ياسر عرفات يحلم باستعادة كامل الأرض المحتلة بفوهة رشاشِه. معاركه الطويلة والمريرة شرحت له وبقسوة، حقيقةَ ميزان القوى الممتد من تل أبيب إلى واشنطن. لهذا رأينا ياسر عرفات يصافح إسحقَ رابين في حديقة الورود بالبيت الأبيض. لهذا رأيناه يقبل بحلم دولة على بعض الأرض رغم قسوة التنازل عن بعضها الآخر.

في مقره الفرنسي، صارحَ الخميني مبعوث صدام حسين. قالَ له إنَّ إسقاط «نظام البعث الكافر» هو البند الثاني في برنامجه بعد إسقاط نظام الشاه. وكانَ حلم الخميني اقتلاع نظام صدام خصوصاً حين رجحت كفة إيران في الحرب مع العراق. لم يسمح ميزان القوى الدولي للخميني بتحقيق حلمه، فوافق على تجرّع سمّ القبول بوقف النار.

في المقابل، لم يلتفت صدام إلى وقائع ميزان القوى حين غزت قواتُه الكويت. لم يلتفت أيضاً إلى ضرورة محاولة تفادي الغزو الأميركي للعراق، معتبراً الأمرَ «معركة كرامة الأمة»، كما قال لصحيفتنا وزيرُ الخارجية اليمني الأسبق أبو بكر القربي.

لنتركِ الماضي إلى الحاضر. حين راح سلاحُ الجو الإسرائيلي يدمر أسلحة «جيش الأسد»، لم يكن أمام الرئيس أحمد الشرع غير التعاطي مع ميزان القوى. لقد تضاعف الخلل في ميزان القوى بعدما تمكَّنت إسرائيل من إخراج إيران من سوريا، ووجهت ضربةً موجعة إلى «حزب الله» اللبناني وقيادته. وحين اندلعتِ الأزمة الأخيرة في السويداء، لم يكن أمام الشرع أيضاً غير الالتفات إلى ما يمليه ميزان القوى.

الرئيس جوزيف عون يختبر مع حكومته قسوةَ ميزان القوى وما طرأ عليه بعد «الطوفان». المسيّرات الإسرائيلية لا تكفُّ عن انتهاك أجواء لبنان وتنفيذ اغتيالات. ويعرف الرئيس أنَّ نزع سلاح «حزب الله» شرط أميركي ودولي لدخول لبنان مرحلة الحصول على المساعدات لإعادة الإعمار. هذا من دون أن ننسى سموم ميزان القوى وما تفرضه على السلطة الفلسطينية.

في الفترة التي أعقبت هجوم «حماس» الشهير في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أصيبت إسرائيل بجنون الثأر والانتصار. ولا مجال لإنكار أنَّ آلتها الحربية، المدعومة أميركياً، تمكَّنت من تدمير غزة وفرض سيطرتها في أجواء خرائط عدة، كما تمكَّنت من تنفيذ توغلات في أراضي سوريا ولبنان.

ميزان القوى الحالي واضح. لا قدرة للفلسطينيين على استعادة حقوقهم بالقوة؛ لا الآن ولا في مستقبل قريب. يمكن قول الشيء نفسه عن سوريا التي لا بدَّ أن تعطي الأولوية لبناء دولة مؤسسات تحفظ الوحدة والتعايش، وتفتح باب الاستقرار والازدهار. «حزب الله» اللبناني ليس قادراً على إطلاق حرب جديدة ضد إسرائيل، لا الآن ولا في مستقبل قريب.

أمام خللٍ بهذا الحجم في ميزان القوى، لا يملك الفريق الأضعف خياراً غير اللجوء إلى الشرعية الدولية. مبادئ الشرعية الدولية تساعد في الاحتماء من الظلم الذي يفرضه ميزان القوى. ولا بد أيضاً من الذهاب إلى جوهر الموضوع، أي إلى معالجة الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني، والذي كانَ أساس زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط.

لا يمكن خفض سموم ميزان القوى إلا بالرجوع إلى مبادئ الشرعية الدولية التي تضمن قيام السلام العادل. من هنا أهمية معركة الدولتين التي تلعب فيها السعودية دوراً نشطاً ومؤثراً، كان من آخر نتائجه إعلان الرئيس الفرنسي أن بلاده ستعترف بالدولة الفلسطينية.

سياسات البطش والقوة والإلغاء ستبقي الشرق الأوسط نائماً على براميل البارود، في حين تحتاج دوله إلى التقاط الأنفاس لمحاربة الفقر واستعادة النازحين وخوض معركة التنمية واللحاق بالعصر. الحلّ ليس الاستسلام لإملاءات ميزان القوى. الحلّ هو توظيف كل الأوراق لإنعاش دور الشرعية الدولية.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سمومُ موازينِ القوى سمومُ موازينِ القوى



GMT 21:06 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

آخر الرحابنة

GMT 21:04 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

حلّ الدولتين... زخمٌ لن يتوقّف

GMT 21:03 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

«تامر يَجُرّ شَكَل عمرو!»

GMT 21:01 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

رياح يوليو 1952

GMT 20:59 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

لا يجوز في الساحل ولا يليق

GMT 20:58 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

الوزير الخائن دمر الفسطاط (1)

GMT 20:45 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

حرب المساعدات

GMT 11:10 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

حديث الصيف: أيام العرب في الجاهلية

نانسي عجرم تكسر قواعد الموضة في "نانسي 11" بإطلالات جريئة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 19:34 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

فرنسا تندد بمقتل ناشط فلسطيني في الضفة
المغرب اليوم - فرنسا تندد بمقتل ناشط فلسطيني في الضفة

GMT 17:16 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 16:39 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء

GMT 16:18 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 19:12 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس والشعور

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:51 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:14 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:19 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

انتبه لمصالحك المهنية جيداً

GMT 19:04 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib