عن الوعي السهل والوعي الصعب في أزمنة الحروب

عن الوعي السهل والوعي الصعب في أزمنة الحروب...

المغرب اليوم -

عن الوعي السهل والوعي الصعب في أزمنة الحروب

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

يستلهم صاحبُ الوعي السهل الجنديَّ أو المقاتل. فهو مثله، قطعة واحدة منسجمة لا التواءات فيها. يقيم في متراسه ويعرف ما يستهدفه: إنّه عدوّ ماثل أمامه. لهذا فهو حين يفكّر يكون يخوض المعركة أو يستأنف الحرب. وكلّ وعي صافٍ، قوميّاً كان أو دينيّاً، قَبَليّاً أو طبقيّاً، يفكّر هكذا، «يفكّر» بمعنى «يقاتل». قد تنشأ ظروف معيّنة غير ملائمة لحربه تدفعه إلى عقد هدنة أو اعتماد تكتيك مداوِر، إلاّ أنّه يعود، بعد ذاك الفاصل الزمنيّ والحربيّ، إلى حيث كان في المتراس. استراحته الوحيدة استراحة المحارب.

مقابل هذا الوعي السهل، المتجانس والصخريّ، ثمّة وعي صعب تتأتّى صعوبته من كونه ممزّقاً ومتفاوتاً، مُحيّراً ومتردّداً، عواطفُه تتضارب في إيقاع سريع أقوى ثوابته كراهية القتل، وعقله يجد ملاذه في المختبر، يجمع ويطرح ويركّب ويقارن ويراجع.

والوعيان يختلفان حيال الزمن. فالوعي الصعب يهتمّ بالماضي بوصفه سبباً بعيداً، متعدّد الطبقات والمصادر، لكنّه أيضاً يهتمّ بالمستقبل وباحتمال أن تكون له قدرة على تجاوز البؤس الحاضر. أمّا صاحب الوعي السهل فتستحوذ عليه اللحظة الداهمة، لا يهمّه من الماضي إلاّ ما أنذر بحدوثها، بالمعنى الذي تقوله الأساطير عن إشارات الطبيعة، ولا يستوقفه المستقبل بوصفه احتمال وعد، أو شيئاً قابلاً لأن يحوّله تدخّلٌ إنسانيّ ما إلى وعد. نشيده «الآن الآن وليس غداً».

وهما يختلفان في تصوّر المكان وتصويره. فللوعي السهل يلوح المكان أقرب إلى سهل يشاركه السهولة، وعلى امتداد السهل تنقشع رؤية لا يشوبها غموض، لكنّ خطّاً حادّ الترسيم يفصل بين جزئي السهل المتحاربين. أمّا للوعي الصعب فالمكان جبل مليء بالتضاريس، تتخلّله الكهوف والمغاور، ووحده المجهول يكمن وراءه، فيما صعوده هو الهبوط مقلوباً، والعكس بالعكس.

والوعي الصعب تعيس. فهو يُزَجّ في الحرب كما لو كانت زيجةً مُدبّرة وقسريّة. وهو مُطالَب بأن يفرح ويحتفل بشيء يمقته، شيءٍ لا يكاد يرزح تحته حتّى يروح يتخيّل نهايته ويتمنّاها. أمّا الوعي السهل فوعي سعيد يرى في الحرب زيجة أنجبها الهيام والشغف. إنّها لحظة انتُظرت طويلاً، ولطالما سبق التدرّب عليها وعلى قيمها الممدوحة، كالبطولة والشهادة. والوعي هذا يفضّل لو أنّ تلك اللحظة تمكث معنا فتغدو طريقة حياة ومنطق تبادُل شامل.

كذلك تنهل سعادة السعيد من شعوره بأنّ الحرب تجمعه بأهله وتجمع أهله به، هم الذين ورث عنهم، أو ظنّ أنّه ورث عنهم، معظم ما صار عليه قناعاتٍ وأفكاراً. وهم، في حبّهم العيش بالسيف، يردّون لابنهم دَين إقراره بهم فيرفعونه موضعَ افتخار ودليلَ أصالة.

أمّا تعاسة التعيس فيعزّزها الشعور بالاختلاف عن الأهل والانكفاء عن حماستهم المفترضة. لهذا يُصوَّر صاحب الوعي الصعب صعلوكاً لفظتْه القبيلة، ويُستمع إلى كلامه كأنّه هذيان، فيما لا يكفّ اختلافه عن إثارة القلق والريبة.

وإذ يميل الوعي السهل إلى اللغة الحربيّة، يميل الوعي الصعب إلى اللغة السياسيّة التي تُصالحه مع أهله بعد قطيعة وتؤكّد، من جهة أخرى، أنّ الحرب انتهت. وبالمعنى نفسه، يلوح التاريخ للأوّل ملحمةً تضجّ لوحاتها بالبطولات ولا تنتهي إلاّ بانتصار ماحق يمهّد لمعركة أخرى يتلوها انتصار لاحق. وبدوره فإنّ الثاني، الصعب والتعيس، يرى إلى التاريخ بوصفه روايةً يخسر فيها الكلّ وتكون نهايتها مأزقاً وانسداداً جديدين هما من أحوال الدنيا.

ومن مصادر السهولة في الوعي السهل أنّ صاحبه يملك كلّ الحقّ، وكلّ الخير والجمال، وأنّ المظلوميّة حكر عليه، بينما من يحاربونه مجموعة سلب خالص. وهو مسبقاً عارفٌ تمّت له المعرفة، صُلْبٌ في ماهويّة تحدّد له الفضيلة والرذيلة الأبديّتين. والماهويّةُ لا يفاجئها جديد ولا تجدّ عليها مفاجأة أو صدفة أو حتّى حركة، فكلّ ما يحمله الغيب عودٌ على بدء أو خِدَع وحِيَل ظاهرها غير الباطن.

لكنّ من مصادر الصعوبة في الوعي الصعب أنّ صاحبه، وهو يرى الشياطين في جبهة الأعداء، يفكّر أيضاً بالشياطين التي في داخله وداخل أهله. ففعل النقد والنقض، عنده، فعل نقد ونقض ذاتيّين أيضاً. وبدل أن يحصر تفكيره في مكان بعينه، هو ساحة المعركة وظلالها المباشرة، يحاول أن يمدّ نظرته إلى أمكنة كثيرة أخرى، مرئيّة أو غير مرئيّة، تكيّفها الحرب. بيد أنّ هواجسه تقوده إلى تساؤلات عن العنف والبشر وما تنطوي النفس عليه. هكذا نراه يطالب بارتفاع كلّ الأصوات، علّنا نقع على فكرة أو اقتراح أو تأمّل، مقابل رغبة الوعي البسيط في إسكات سائر الأصوات لأنّ الأمور واضحة ومعروفة، والمعرفةُ التي تزيد عن اللازم تُربك وتشتّت. فإذا سأل الوعي الصعب، وهو وعي مثقل بالأسئلة: ما الذي ينبغي فعله، أجابه الوعي البسيط، المُتخم بالأجوبة: قاتلْ واصمت. ولماذا السؤال، بل لماذا الكلام، طالما كلّنا أخصّائيّون في وصف العدوّ، نصفُه ملايين المرّات فنقتل المفاجأة ونسهّل التوقّع لكنّنا، مع هذا، نستمرّ في الوصف الذي لا يضيف إلاّ تبديل مواضع النقاط والفواصل في نصّ مقدّس. فالعبارة تضيق بالتعارض والتفاوت، ولا تتّسع إلاّ لقول بسيط لا يلبث أن ينحسر إلى إيماءة وجه أو غمزة عين.

وفي أغلب الظنّ سوف نمضي على هذا النحو، مقدامين راسخين، إلى قيام الساعة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الوعي السهل والوعي الصعب في أزمنة الحروب عن الوعي السهل والوعي الصعب في أزمنة الحروب



GMT 00:06 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

استقرار واستدامة

GMT 00:01 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

نسخة ليبية من «آسفين يا ريّس»!

GMT 23:59 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

بضع ملاحظات عن السلاح بوصفه شريك إسرائيل في قتلنا

GMT 23:58 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

ليبيا... أضاعوها ثم تعاركوا عليها

GMT 23:55 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

الأديان ومكافحة العنصرية في أوروبا

GMT 23:52 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

إن كنت ناسي أفكرك!!

GMT 23:49 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

سوء حظ السودان

نجمات الموضة يتألقن بإطلالات صيفية منعشة تجمع بين البساطة والأنوثة

دبي - المغرب اليوم

GMT 10:25 2016 الأربعاء ,18 أيار / مايو

أمير قطر يتسلم رسالة خطية من الرئيس السوداني

GMT 18:16 2015 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

زيت شجرة الشاي لعلاج التهاب باطن العين

GMT 04:56 2016 الإثنين ,04 كانون الثاني / يناير

ارتفاع حركة النقل الجوي في مطارات المغرب بنسبة 1.79 %

GMT 13:04 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مجموعة "المغانا" تتبرأ من "تيفو" مباراة المغرب والغابون

GMT 22:00 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

ناصيف زيتون يحي صيف النجاحات وسط حضور جماهيري حاشد

GMT 19:55 2022 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

هبوط أسعار النفط مع تنامي مخاوف الصين من فيروس كورونا

GMT 15:06 2022 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أرباح "مصرف المغرب" تبلغ 438 مليون درهم

GMT 12:29 2022 السبت ,07 أيار / مايو

أفضل أنواع الهايلايتر لجميع أنواع البشرة

GMT 17:41 2022 السبت ,09 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 4,3 درجات في إقليم الدريوْش

GMT 23:50 2022 الأربعاء ,26 كانون الثاني / يناير

"ناسا" ترصد مليون دولار لمن يحل مشكلة إطعام رواد الفضاء

GMT 20:42 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

مدريد تستعد لأشد تساقط للثلوج منذ عقود

GMT 01:34 2020 الخميس ,03 كانون الأول / ديسمبر

الحكم على المودل سلمى الشيمي ومصورها

GMT 22:23 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

مُساعد جوسيب بارتوميو يظهر في انتخابات نادي برشلونة المقبلة

GMT 15:54 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز التوقعات لعودة تطبيق الحجر الصحي الكامل في المغرب

GMT 19:12 2020 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أمن طنجة يحقق في اتهامات باغتصاب تلميذ قاصر داخل مدرسة

GMT 23:35 2020 الأحد ,13 أيلول / سبتمبر

فساتين سهرة باللون الأخضر الفاتح

GMT 23:41 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

بلاغ هام من وزارة "أمزازي" بشأن التعليم عن بعد
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib