عن العنف وما يسبقه ويليه

... عن العنف وما يسبقه ويليه

المغرب اليوم -

 عن العنف وما يسبقه ويليه

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

ما شهده الساحل السوريّ بدأه عمل إرهابيّ نفّذته «فلول» النظام البائد. لكنّه سريعاً ما تعدّى ذلك، وتعدّاه كثيراً، ليطرح جملة من الأمور المُلحّة في حياتنا وسياساتنا: كيف نتعامل مع أحقاد ونزعات ثأر؟ وكيف نفكّر بالاجتماع السياسيّ في مجتمع متعدّد؟ وكيف تُردَع الأفكار المتطرّفة وأصحابها عن التحكّم وصناعة القرار؟... بيد أنّ أمراً آخر جدّدت الأحداث المؤلمة إحياءه، هو العنف واستسهال العنف في صنع حياتنا.

فهناك، والحقّ يقال، ميل راسخ يدفعنا إلى توهّم السيطرة على العنف، بحصره في مكان وحجبه عن مكان، وباستخدامه هنا وتعطيله هناك، ومن ثمّ سَوقه إلى ما يخدم أغراضاً نراها مُحقّة. والميل هذا غالباً ما تعتمده الحجج المبرّرة للعنف، فيما التيّارات السائدة في ثقافتنا السياسيّة تشجّع على معانقة ذاك التوهّم. فقبل عقود على نزع حركات الإسلام السياسيّ كلّ تأويل مجازيّ عن مفهوم «الجهاد»، تأثّرت أحزاب مشرقيّة كـ»السوريّ القوميّ» و»حركة القوميّين العرب»، بالفاشيّات الأوروبيّة، رافعةً القوّة إلى مثال. وبدوره علّمنا الطبيب المارتنيكيّ فرانس فانون، نتيجة انكبابه على الجزائر وثورتها، أنّ العنف في مواجهة المستعمِر فعلٌ علاجيّ يطهّر نفس المضطهَد. ومع الثورة الإيرانيّة في 1979 ازدهرت نظريّة تقول إنّ الخمينيّ أحدث تحويلاً كبيراً بأن نقل العنف الطقسيّ الذي يرتدّ على الذات إلى عنف يتّجه إلى «الإمبرياليّة وعميلها الشاه». ودائماً كان يظهر من يعظنا، كلّما اهتزّت أوضاع داخليّة في بلد عربيّ، بأن نوجّه البنادق إلى صدر «العدوّ الصهيونيّ».

لكنّ زمناً قصيراً نسبيّاً بدا كافياً للبرهنة على فداحة الأخطاء المقيمة في تلك التعاليم. فالجزائر لم يردعها «تطهير نفسها» بـ»مليون شهيد» عن حرب أهليّة مديدة وباهظة الكلفة بين الجزائريّين أنفسهم. وكانت كلّ قفزة تقفزها إيران الخمينيّة في التطرّف ضدّ الإمبرياليّة ترفع معدّلات العنف الموجّه إلى الذات وطقوسه. أمّا «العدوّ الصهيونيّ» فلم تزدهر الحروب والنزاعات الأهليّة، العربيّة – العربيّة، كما ازدهرت في مراحل توجيه البنادق إلى صدره...

ذاك أنّ العنف يشبه عوامل الطبيعة الجامحة التي ظنّ فلاسفة ما قبل الفلسفة أنّها مصدر العالم وسببه. فعلى عكس ما يقوله مهندسوه، يستحيل التحكّم بأشكال العنف ومجاريه، تماماً كما يستحيل التحكّم بمجاري الهواء والنار والماء وباندفاعها...

أمّا أن يكون العنف قد احتلّ موقعاً مركزيّاً في الماضي، وهذا صحيح، فليس بالحجّة الكافية لمنحه موقعاً مركزيّاً في المستقبل. فمثل هذا التسليم بأنّه سوف يبقى «قاطرة التاريخ» لأنّه كان كذلك، يُعلنُنا عطالةً سلبيّة في مواجهة العنف، عطالةً لا تنتفع بحضارة أو بتقدّم أو بتجربة.

وما دمنا ضعفاء، تعوزنا مصادر القوّة، فكلّ ما تفعله الآيديولوجيات العنفيّة هو تعويضنا ضعفَنا بإشاعة الوهم حول قوّةٍ تقيم فينا، وهو ما لا يُترجم في الواقع إلاّ تداولاً لتلك القوّة المزعومة في ما بيننا. ولئن استوطننا إحباط ناجم عن الصدام بين صورتنا عن العالم، بوصفه قتالاً ومقاتلين ينتصرون، وواقع الهزائم الفعليّة، توهّمنا مجدّداً أنّنا نعالج إحباطنا بمزيد من العنف الذي، لا محالة، سيعطينا الحقّ ويأتينا، هذه المرّة، بنصر مؤزّر.

صحيح أنّنا، في تاريخنا الحديث، عرفنا حركات سياسيّة سلميّة، ربّما كان «حزب الوفد» المصريّ قد افتتحها بثورته في 1919. وسلميّةً كانت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى التي انطلقت في 1987، وكذلك بدايات «الربيع العربيّ» قبل أن يطحنه بعنفهم الحكّام والإسلاميّون. لكنّ الأشكال العنفيّة كانت دائماً تستولي على المشهد، سيّما وأنّنا لم نعرف حركات سلميّة يُعتدّ بها. هكذا لم تُجفّف مصادره في حياتنا فيما السياسة مُستبعَدَة والتعبير مخنوق والعدالة التي تُنصف الضحايا منتهَكة.

فنحن لم ننجح مرّةً في التمييز بين الانتصار لفكرة والانتصار لجماعة، ولم نتمكّن من منع انتصار فكرة على فكرة أن يتحوّل انتصاراً لجماعة على جماعة. كذلك لم تُبذل جهود جدّيّة للتوفيق بين انحيازنا إلى فكرة وامتحان الفكرة هذه على إرادة غيرنا من السكّان، أو على مدى تحمّل المجتمعات لما يرتّبه انتصار فكرتنا. وإذ اجتمعت عبادة القوّة واحتكار الحقّ اللذان تبثّهما فينا وسائط عدّة، قديمة تمّ تحديثها وحديثة روحها غائرة في القِدَم، مع نظرة تآمريّة تحترف صناعة الشرّ بأيدي قوى لا تتغيّر ولا تتبدّل، وجدت القوّة والمقاومة تبريرهما بوصفهما قَدرنا وكلّ ما يتبقّى لنا.

وفي ظلّ شعارات موبوءة كـ»حرب وجود لا حرب حدود» و»رفض أنسنة العدوّ»، سُدّت الأبواب في وجه احتمال التسامح بين طرفين متنازعين، فدُفع الجميع إلى التثبّت في تركيبهم الأصليّ والعصبيّ الذي لا يليق به شيء كما يليق العنف الإباديّ.

والحال أنّ ما من قضيّة تبرّر العنف الأعمى. ولربّما جاز القول الآن، وقد أتيحت فرصة كبرى للسوريّين واللبنانيّين، بمنتصريهم وبمهزوميهم، أنّ الخيار ينتصب، كما لم يكن قبلاً، بين السياسة والعدالة وبين القوّة المُفضية إلى التوحّش، والتي تحوّل البدايات المحتملة إلى نهاياتٍ مؤكّدة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن العنف وما يسبقه ويليه  عن العنف وما يسبقه ويليه



GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

GMT 14:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

السلاح... أو حين يكون المكسب صفراً والهزيمة مطلقة

GMT 14:28 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من سيلحق بكندا... في «التعامل بالمثل» مع ترمب؟

GMT 14:24 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وخصومه في «حيْصَ بيْص»

GMT 14:23 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

سموتريتش وحقد الجِمال

GMT 14:19 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

القطبية الصينية ومسار «عالم الغابة»

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 16:43 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

منع دخول مغاربة إلى تونس يثير موجة شكاوى واستياء
المغرب اليوم - منع دخول مغاربة إلى تونس يثير موجة شكاوى واستياء

GMT 11:40 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

تصميمات رخامية تُعيد إحياء الحمّامات الرومانية في قلب بيروت
المغرب اليوم - تصميمات رخامية تُعيد إحياء الحمّامات الرومانية في قلب بيروت

GMT 19:13 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة
المغرب اليوم - ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة

GMT 17:33 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية
المغرب اليوم - باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية

GMT 22:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل
المغرب اليوم - نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل

GMT 16:35 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء على منع السكري قبل ظهوره
المغرب اليوم - الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء على منع السكري قبل ظهوره

GMT 17:49 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها
المغرب اليوم - بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها

GMT 19:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب
المغرب اليوم - الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب

GMT 15:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 02:18 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

سهام العزوزي تتوج بلقب مسابقة "ميس أمازيغ" في دورتها الخامسة

GMT 14:13 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

فرقة «رضا» تتألق في الأقصر عاصمة السياحة لعام 2016

GMT 23:59 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

تعرف على تفاصيل طلاق "أبو جاد" وزوجته سارة

GMT 19:07 2019 السبت ,22 حزيران / يونيو

الكرنب يحتوي على مغذيات تحارب مرض الخرف

GMT 13:24 2019 السبت ,01 حزيران / يونيو

ودي تكشف عن موديلات S من سياراتها Q5 وA6 وA7

GMT 14:44 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

حرّاس صدام حسين يكشفون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته

GMT 07:20 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الأغذية منخفضة الكربوهيدرات تسهم في علاج السكري

GMT 16:22 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

العروبة الإماراتي يتعاقد مع ياسين الصالحي لموسم واحد

GMT 20:51 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تستعد لتنظيم بطولة العالم للجمباز بمشاركة إسرائيلية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib