الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض

الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض

المغرب اليوم -

الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

 

استولت فكرة النقائض على معظم الفكر السياسيّ العربيّ المعاصر، وبالطبع فإنّ لكلّ شيء نقيضاً وضدّاً. فالاستعمار نقيضُه الاستقلال والتحرّر، والاحتلال نقيضه المقاومة، والرجعيّة تقابلها التقدّميّة، والتجزئة تعارضها الوحدة، فيما التقدّم هو ما يقف في مواجهة التخلّف...

ووعي الأمور على هذا النحو المبرم تتعدّد مصادره. فهناك مثلاً المصدر المُتوارَث الضارب في يقينيّات تعود إلى أزمنة سحيقة، ويحرسها المقدّس، ومن ذلك ثنائيّات الحقّ والباطل، والخير والشرّ، والأبيض والأسود، وهناك المصدر الحديث مرموزاً إليه بالهيغليّة، لا سيّما في تنقيحها الماركسيّ، حيث التاريخ نقائض يفضي صراعها إلى محطّات أعلى في مسار التطوّر المديد.

وعملاً بفكرة أصوليّة في التأويل تُعدم كلّ تسوية بين النقائض، سُكّ تعبير «الانتقائيّة» المذموم تدليلاً على مَن يعقد تسويات دامجاً شيئاً من هذا النقيض بشيء من نقيضه، أو لا يتقيّد بالرواية الحَرفيّة التي يرويها ممثّلو النقيض الصالح عنه.

بيد أنّ استيلاء فكرة النقائض المطلقة على الوعي، ونجاح الـ «ماذا» في طرد الـ «كيف» وفي استبعاده، قد يوصدان الباب كلّيّاً في وجه السيرورات والكيفيّات، أو أنّ هذا ما رأينا عيّنات صارخة عنه في الثقافة السياسيّة العربيّة الأوسع انتشاراً. وهذا علماً بأنّ الأعمال الكبرى في تأسيس الفكر السياسيّ الحديث، أي أعمال نيكولو مكيافيللي وتوماس هوبز وجون لوك، إنّما تدور أساساً حول السيرورات والكيفيّات وطرق الحكم والحاكم ورسم علاقتهما بالمحكوم حقوقاً وواجبات. ذاك أنّنا هنا تحديداً نقع على ما يوسّع هوامش السياسة ويتيح تدخّلها بما يحاصر العنف ويقلّل الموت الذي ينجم عن التشبّث بقضايا جذريّة لا تُحلّ إلاّ جذريّاً. وبهذا فحسب يُفتح الباب لاستقبال الاحتمالات الغنيّة، والتطوّرات والمستجدّات المفاجئة، التي يزوّدنا بها الواقع من دون أن تتوقّعها رواية النقائض المغلقة سلفاً على نفسها.

وهكذا تلحّ الحاجة إلى الترتيبات والتسويات ممّا تمليه أسباب كثيرة، في عدادها عدم ظهور توازن قوى يسمح بحسم التناقض بين النقائض على شكل انتصار مُبين وهزيمة كاسحة. وهذا ناهيك عن أنّ أحوال المجتمعات أو قدرات سكّانها وطاقاتهم قد لا تتحمّل الأكلاف التي يتطلّبها حسم ذاك التناقض. وفي عالمنا المتداخل، تضيق المسافات أحياناً بين الـ «هنا» والـ «هناك»، فيجد المرء نفسه منحازاً إلى أشياء كثيرة يصعب إدراجها حصريّاً في هذا النقيض أو في ذاك. وهذا ما قد يزرع بذور التناقض داخل كلّ واحد من النقيضين، مرشّحاً الصراع بينهما لأن ينقلب صراعاً داخل كلّ منهما. كذلك يضيف تطوّر التقنيّة أسباباً يستحيل تجاهلها في رسم أشكال الصراعات وصِيَغها. فإذا صحّ، مثلاً لا حصراً، أنّ مقاومة الاحتلال حقّ مشروع لمن يُحتَلّ، صحّ أيضاً أنّ الفجوة التقنيّة قد تلغي العنف كشكل في المقاومة لتحصرها في جهود سياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة... وبالطبع تدخل أفكار وتقنيّات لم تكن مألوفة قبلاً في حلّ التناقضات كالتعويض أو المبادلة أو تحكيم طرف ثالث، كما قد يُحال حلّ بعض المسائل العالقة، ممّا قد تفوق كلفتُه الطاقةَ الإنسانيّة في ظرف ما، إلى ظروف أخرى، أو ربّما إلى أجيال أخرى...

وقد سبق لبعض المشهود لهم بالنزوع الآيديولوجيّ أن انكبّوا على مصالحة الماركسيّة وتصوّرات أشدّ إقراراً بدور السياسة، أو لجأوا إلى الانتقائيّة التي تدينها نظريّات التناقض المطلق بين النقائض. وإذ علُق راديكاليّو «العالم الثالث» في «حروب الوجود لا الحدود» و»معارك البقاء والفناء»، سلك رفاقهم الغربيّون طريقاً آخر. ففي السبعينات مثلاً، ذهبت الأحزاب الشيوعيّة الإيطاليّة والإسبانيّة والفرنسيّة إلى تطوير «الشيوعيّة الأوروبيّة» التي تحاول التوافق مع الديمقراطيّة البرلمانيّة في قارّتها، كما قال الشيوعيّون الإيطاليّون بـ «تسوية تاريخيّة» تتيح لهم مشاركة المسيحيّين الديمقراطيّين حكم إيطاليا. وقبل عقدين على ذلك، توافق آيديولوجيّون عتاة كقادة الاتّحاد السوفياتيّ، في ظلّ نيكيتا خروتشوف، على «التعايش السلميّ» مع الرأسماليّة، وعلى إمكان بلوغ الاشتراكيّة عبر البرلمان، وليس حصراً عبر الثورة. ومن موقع مختلف ربّما كان الرئيس التونسيّ الراحل الحبيب بورقيبة أبكر من صدم ثقافة النقائض المطلقة في العالم العربيّ، وذلك حين اعتبر أنّ الحصول على استقلال بلاده عن فرنسا يخسر الكثير من جدواه إن تأدّى عنه تردّي العلاقة بالثقافة الفرنسيّة أو انقطاعها. لكنّ هذا الموقف التاريخيّ لم ينطوِ، للأسف، على شيء من الجاذب الذي حظي به طريق الجزائر إلى استقلال معبّد بـ «مليون شهيد».

وقد نردّ سطوة وعي النقائض المطلقة علينا إلى ضعف الثقافتين التجريبيّة والنفعيّة في الفكر السياسيّ العربيّ، وربّما أيضاً إلى نقص الترابط العضويّ في تراكيبنا الاجتماعيّة، حيث يندر أن ينعكس شيء إلى شيء آخر، أو إلى القسوة التي اتّسم بها الكثير من حقبنا التاريخيّة والتحدّيات التي شابتها. لكنْ ربّما جاز قلب المعادلة والقول إنّ مقاربات مختلفة للأمور كان في وسعها أن تحدّ من تلك القسوة ومن تحدّياتها، وهذه قصّة أخرى بطبيعة الحال.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض



GMT 00:06 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

استقرار واستدامة

GMT 00:01 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

نسخة ليبية من «آسفين يا ريّس»!

GMT 23:59 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

بضع ملاحظات عن السلاح بوصفه شريك إسرائيل في قتلنا

GMT 23:58 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

ليبيا... أضاعوها ثم تعاركوا عليها

GMT 23:55 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

الأديان ومكافحة العنصرية في أوروبا

GMT 23:52 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

إن كنت ناسي أفكرك!!

GMT 23:49 2025 الأربعاء ,03 أيلول / سبتمبر

سوء حظ السودان

نجمات الموضة يتألقن بإطلالات صيفية منعشة تجمع بين البساطة والأنوثة

دبي - المغرب اليوم

GMT 10:25 2016 الأربعاء ,18 أيار / مايو

أمير قطر يتسلم رسالة خطية من الرئيس السوداني

GMT 18:16 2015 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

زيت شجرة الشاي لعلاج التهاب باطن العين

GMT 04:56 2016 الإثنين ,04 كانون الثاني / يناير

ارتفاع حركة النقل الجوي في مطارات المغرب بنسبة 1.79 %

GMT 13:04 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مجموعة "المغانا" تتبرأ من "تيفو" مباراة المغرب والغابون

GMT 22:00 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

ناصيف زيتون يحي صيف النجاحات وسط حضور جماهيري حاشد

GMT 19:55 2022 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

هبوط أسعار النفط مع تنامي مخاوف الصين من فيروس كورونا

GMT 15:06 2022 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أرباح "مصرف المغرب" تبلغ 438 مليون درهم

GMT 12:29 2022 السبت ,07 أيار / مايو

أفضل أنواع الهايلايتر لجميع أنواع البشرة

GMT 17:41 2022 السبت ,09 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 4,3 درجات في إقليم الدريوْش

GMT 23:50 2022 الأربعاء ,26 كانون الثاني / يناير

"ناسا" ترصد مليون دولار لمن يحل مشكلة إطعام رواد الفضاء

GMT 20:42 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

مدريد تستعد لأشد تساقط للثلوج منذ عقود

GMT 01:34 2020 الخميس ,03 كانون الأول / ديسمبر

الحكم على المودل سلمى الشيمي ومصورها

GMT 22:23 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

مُساعد جوسيب بارتوميو يظهر في انتخابات نادي برشلونة المقبلة

GMT 15:54 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز التوقعات لعودة تطبيق الحجر الصحي الكامل في المغرب

GMT 19:12 2020 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أمن طنجة يحقق في اتهامات باغتصاب تلميذ قاصر داخل مدرسة

GMT 23:35 2020 الأحد ,13 أيلول / سبتمبر

فساتين سهرة باللون الأخضر الفاتح

GMT 23:41 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

بلاغ هام من وزارة "أمزازي" بشأن التعليم عن بعد
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib