«العمّال الكردستاني» إذ يستفزّ ثقافة المنطقة

«العمّال الكردستاني» إذ يستفزّ ثقافة المنطقة

المغرب اليوم -

«العمّال الكردستاني» إذ يستفزّ ثقافة المنطقة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

حين يعلن «حزب العمّال الكردستانيّ» حلّ نفسه ويلقي سلاحه ويتخلّى عن الكفاح المسلّح، يكون يعلن أشياء كثيرة يشكّل مجموعها انعطافاً عن الثقافة السياسيّة السائدة في المنطقة.

أمّا قول البعض، ممّن يخفّفون من أهميّة تحوّله، إنّ توازنات القوى الجديدة أملت عليه خياره، فشهادةٌ أخرى لصالحه. ذاك أنَّ براغماتيّة الأخذ بتوازنات القوى هي أيضاً من علامات ذاك الانعطاف ومن سمات الوعي العقلانيّ.

والحال أنّها لم تكن محاولة «العمّال الكردستانيّ» الأولى في مغادرة الحرب، وإن كانت المحاولة الأكثر جدّيّة والأرفع حظّاً، وفي الآن عينه الأشدّ استفزازاً للسائد الثقافيّ. فتحت أنوفنا اليوم تقيم حالات لا تعبأ بتوازنات القوى، مؤثرةً المضيّ في خوض معارك انتهت عمليّاً، وفي «تقديم شهداء» كان بقاؤهم على قيد الحياة أجدى لهم ولنا. ذاك أنّ الحرب على الموت، كائنة ما كانت ظروفها، تبقى أنبل الحروب التي تبهت أمامها فولكلوريّات «المجاهد» و«المناضل» و«الشهيد» والحضّ على تقديم القرابين.

وعلى اختلاف التجارب، عرف العالم العربيّ نماذج في التباين بين خطّين في التحرّر الوطنيّ، واحدٍ «معتدل» يقرّ بتوازن القوى ويقول بالتدرّج في بلوغ الأهداف، وآخر «متطرّف» ينفي ذلك. فسوريّو الثلاثينات مثلاً واجههم خطّا جميل مردم بك وعبد الرحمن الشهبندر، وتوانسة الخمسينات طُرح عليهم الاختيار بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، ومنذ السبعينات الفلسطينيّة حتّى اليوم يقف خطّ «فتح» في مقابل خطّ التنظيمات الراديكاليّة داخل منظّمة التحرير وخارجها. لكنّ مساجلات تلك النماذج وسواها بقيت محصورة بالأهداف السياسيّة المباشرة، لا تتعدّاها إلى مواقف ثقافيّة وفكريّة وحياتيّة أعرض. وغالباً ما كان «المعتدل» يساجل «المتطرّف» مُسلّماً بمقدّماته وباستخلاصاته «المتطرّفة»، و«متفهّماً» أسبابه، فيما هو يطالبه باعتماد نهج «معتدل».

واليوم يختار «حزب العمّال الكردستانيّ»، وقد اصطدم بحائط مسدود، القنوات السياسيّة المتاحة لمشروعه، والرهان على توسيعها من خلال السياسة فحسب. وهو لم يشترط إقدام الطرف الآخر، أي الدولة التركيّة، على تقديم تنازلات كبرى مسبقة، معوّلاً على التغيير الذي تُحدثه العمليّة السياسيّة بذاتها. وقد لوحظ، في هذا السياق، أنّ البدايات شهدت تغيّراً إلى الأحسن في مواقف الزعيم القوميّ الشوفينيّ دولت بهشتلي، وأنّ «حزب المساواة وديمقراطيّة الشعوب» فرصة يمكن اقتناصها خدمةً لهذا المشروع.

فسياسات حركات التحرّر القديمة، التي تعتدّ بالعنف وتقود إمّا إلى الموت أو إلى بناء دول مستبدّة في حالة الانتصار، شيء انتهى، لا في الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم بأسره. والشجاعة في إعلان ذلك تُحسب لصاحبها الشجاع حين لا يردعه الألم والقسوة والمعاناة، فضلاً عن التحجّر والتثبّت في الماضي. وكما هو معروف جيّداً، فإنّ عدوّ «العمّال الكردستانيّ» لم يكن مقتصداً في البطش.

وفي قائمة العناوين التي فقدت صلاحيّتها، فتجرّأ عليها «العمّال الكردستانيّ» من غير مواربة، يندرج إثقال السياسة بالآيديولوجيا النضاليّة، وفكرة الدولة المركزيّة ذات الهويّة والممارسة الأحاديّتين في مجتمع تعدّديّ، وإخضاع الرابطة الوطنيّة للروابط الإثنيّة أو الدينيّة العابرة للحدود، ومن ثمّ توهّم إنشاء دولة ماركسيّة – لينينيّة في كردستان التاريخيّة التي تمتدّ على أربع دول معاصرة. وأهمّ من ذلك كلّه وداع السلاح، ومن ورائه وداع القوّة كمذهب في السياسة وفي تحصيل الحقّ.

هكذا تؤسِّس المراجعة، التي تنطلق من أنّ الماضي مضى، لـ «البدايات» – ذاك التعبير الأثير على «العمّال الكردستانيّ» وأدبيّاته الجديدة. فهزيمة الخطّ النضاليّ السابق لا تعود آخر المطاف ونهاية العالم حين يُتَعَامَل مع الخطّ المذكور بوصفه عبئاً على أصحابه، وبوصف هزيمته فرصة لـ «بداية» أساسها السياسة والتجارب.

صحيح أنّ «العمّال الكردستانيّ» مارس من المثالب ما مارسته الميليشيات المسلّحة قاطبة، وتلقّى دعم المحور السوريّ – الإيرانيّ لسنوات مديدة، ما ألحقه طويلاً بمشروع مَيْلَشة المنطقة وضعضعة دولها ومجتمعاتها. مع هذا فقد اختلف مساره في أمر أساسيّ يُرجّح أنّه أكسبه تميّزه ومناعته الداخليّة. فهو لم ينتقل من ماركسيّته القديمة، المصاحبة له منذ تأسيسه في 1978، إلى شعبويّة دينيّة متزمّتة. فهو، على عكس سائر ميليشيات المنطقة، لم يقارب الإسلام السياسيّ في أيّ لون من ألوانه. وبهذا وذاك افتقرت ممانعته إلى العقيدة الممانِعة التي تدجّجه فبقيت أقرب إلى محض حاجة أمنيّة.

فوق هذا، بقي تركيزه على دور المرأة أساسيّاً، وقد قرنه باهتمام ملحوظ بالشؤون المجتمعيّة التي تتعدّى الحيّز السياسويّ الضيّق. وهي توجّهات لا بدّ أنّها راكمت بصمت ما أسّس للتحوّل الأخير.

ويبقى أنّ ما فعله «العمّال الكردستانيّ»، ولم تفعله ميليشيات المنطقة الأخرى، يجد أحد أبرز أصوله في الوعي الإمبراطوريّ، أو توهّم هذا الوعي. فالكرد لا يملكون ترف توهّم كهذا يساور أكثريّات عربيّة وتركيّة وفارسيّة، لأنّهم بالضبط ضحايا ذاك الوعي وضحايا توهّمه.

لهذا قد يجوز الافتراض إنّ انتهاء حرب الحزب على الدولة التركيّة، ربّما مهّد لابتداء حربه على الثقافة السياسيّة في منطقة تدمّرها ثقافتها تلك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«العمّال الكردستاني» إذ يستفزّ ثقافة المنطقة «العمّال الكردستاني» إذ يستفزّ ثقافة المنطقة



GMT 17:07 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

ثمن على لبنان دفعه...

GMT 17:06 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

تخلف قسري

GMT 17:04 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

حقاً هل نعرفهم؟

GMT 17:02 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

الخيط الذي يقودنا للإصلاح

GMT 17:01 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

ابن برّاك وقنبلته «الشاميّة»

GMT 16:58 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

متى... «كاليدونيا» الفلسطينية؟

GMT 16:57 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

لميس وخيري خارج نطاق الخدمة!!

GMT 16:55 2025 الأربعاء ,16 تموز / يوليو

إعلان نورثوود... زمن الصحوة الأوروبية

GMT 10:45 2025 الثلاثاء ,10 حزيران / يونيو

تاه جاهز للعب مع بايرن في مونديال الأندية

GMT 15:33 2023 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

استقرار مؤشرات الأسهم اليابانية في ختام التعاملات

GMT 10:19 2022 الجمعة ,18 شباط / فبراير

الرجاء المغربي ينهي استعداداته لقمة وفاق سطيف

GMT 13:30 2021 الثلاثاء ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

"هواوي" تطرح أجهزة رائدة في السوق المغربية

GMT 07:05 2020 الخميس ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

بعد إصابتها بـ”كورونا” الفنانة المصرية نشوى مصطفى تستغيث

GMT 13:00 2020 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

أحدث صيحات فساتين الزفاف لعام 2020

GMT 12:10 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي علي حقيقة صورة محمد هنيدي مع إعلامي إسرائيلي

GMT 00:44 2018 الخميس ,05 تموز / يوليو

بولهرود يغير وجهته صوب "ملقا الإسباني"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib