هل نتّجه إلى ما بعد السحر

هل نتّجه إلى ما بعد السحر؟

المغرب اليوم -

هل نتّجه إلى ما بعد السحر

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

يحقّ لكثيرين، كاتب هذه الأسطر واحدٌ منهم، أن يساورهم القلق بشأن الموقع المتضخّم الذي ستشغله إسرائيل – نتانياهو في المنطقة بعد تطوّراتها الإقليميّة الأخيرة، سيّما وقد تحطّمت أو انهارت بلدان المشرق العربيّ جميعاً. مع هذا، سوف يكون من الصعب، ومن الخطأ، عدم الانتباه إلى تحوّلات هائلة تحقّقت وفُرصٍ، لم تكن متوفّرة، توفّرت.


فقبل السياسة وتوازناتها ونفوذ قواها الفاعلة، ربّما بات ممكناً نظريّاً انتقال المشرق، ذهنيّاً ونفسيّاً، إلى ما بعد السحر.

وهذا ليس بالأمر البسيط منظوراً إليه بعين تاريخ المنطقة وتقاليدها. فقبل أن تنحسر العرافة والكهانة والتنجيم، زوّدنا العصر الحديث، خصوصاً من خلال جمال عبد الناصر، بطاقة سحريّة لا يُستهان بها، تنهزم لكنّها تنتصر، وتنكفىء لكنّها تعمّ وتسطع. ولم يتردّد شيوعيّو العراق، إبّان تحالفهم مع عبد الكريم قاسم، في رؤية صورته على وجه القمر، بينما أسبغ البعثيّون على صدّام حسين وحافظ الأسد مواصفات كان البدائيّون يطلقونها على آلهتهم.

ومنذ أربعة عقود فُرض علينا أن نعيش مسحورين، أو أن نتصرّف كما لو أنّنا مسحورون من أجل أن نبدو «وطنيّين» و»طبيعيّين». وقد انطوى السحر هذا، بعدما عزّزه تعاظم العصبيّات الأهليّة والوعي الغيبيّ، وتراجع التعليم، وفَتك بعض القيادات الكاريزميّة بعقل جمهورها، على عناصر عدّة أهمّها صورتنا عن النفس وعن العالم. فقد عُزيت إلى النفس قوّةٌ خرافيّة قيل معها إنّ «زمن الهزائم ولّى»، بحسب عبارة شهيرة لحسن نصر الله. وبدل تطوير حسٍّ نقديّ حيال الذات بقصورها ونواقصها، غدت هذه الذات «أشرف الناس»، فيما لاح «العدوّ» «أوهن من بيت العنكبوت». وبدورها جُعلت الملاحم وثنائيّات الخير والشرّ المطلقين مضموناً للسياسة ووسيلة لتعقّلها. هكذا بات هتاف «الموت لـ...» أقرب إلى نشيد تنشده حنجرة جماعيّة لا تتعب. أمّا «العدوّ» فصارت عداوته من صنف الأفعال القَدَريّة، لا يغيّرها إلاّ فناؤه أو فناؤنا. كذلك أضحى فضاء المنطقة مكاناً تسرح فيه الشياطين والعفاريت، بالكبير منها والصغير، وتمرح.

وكانت الأداة الفضلى لإمرار هذه الجرعة السحريّة وإجازتها تكذيب ما يقوله الواقع ونفي ما تقوله التجارب الحسيّة. وعلى هذا النحو، ومن غير انقطاع، غدت الهزيمة انتصاراً والانتصارُ هزيمة، وصارت الثقافةُ «ثقافةَ المقاومة» التي لا تنتج أدباً أو أفكاراً أو فنّاً أو مسرحاً أو موسيقى، وهذا بينما الحرّيّة والتقدّم تلازمهما عبادة طوطم أعلى منزّه. وإذ صُوّر الموت طريقاً إلى سعادة خالصة، أُطلقت على الحاضر البائس أوصاف مثلى: ذاك أنّ مجرّد وجود المقاومة في هذا الحاضر برهان على تفوّقه على كلّ ماضٍ. أمّا المنطق الضمنيّ لحسبة كهذه فمفاده أنّ المقاومة تلك تلغي كلّ حاجة إلى اقتصاد أفضل واستقرار أمتن وتعليم أحسن وحرّيّات أكثر...

وبموجب ما تمليه «مطاردة الساحرات»، راحت تهم الخيانة والعمالة وما شاكلها تستهدف كلّ مَن تردعه مناعته عن الانسحار، مفضّلاً الاحتكام إلى العقل، أو الاستنجاد بالحقائق. ذاك أنّ السحر «الوطنيّ» يستدعي القول، مثلاً لا حصراً، إنّ عمليّة 7 أكتوبر ستحرّر فلسطين، أو التسليم بأنّ سلاح الحوثيّين سوف «يركّع إسرائيل وأميركا»... وهكذا غدا الكذب، بمعنييه البسيط والأيديولوجيّ، هو القاعدة، وغدا الوطنيّ المقبول مَن يقول إنّ 1 + 1 = 5، فيما التشهير يلاحق مَن يصرّون على أنّ 1 + 1 = 2.

ولأنّ السحر غالباً ما يتطلّب المشهد والمشهديّة، حضرت الحشود في الساحات العامّة لدعمه ولتعزيزه. فالمطلوب لإحداث التأثير الأوسع استخدامُ التماثل في حركة الأجساد، وتلويحها بالقبضات، وهتافها الذي تصرخه الحناجر كلّها في اللحظة نفسها. فبهذا جميعاً يُغزَى الواقع بالمستحيل، ويُدمج فعل الإنسان في فعل الطبيعة الذي لا يُردّ، وهكذا تكون المعجزات. ونعرف كيف برعت النازيّة الألمانيّة في الهندسات الجماليّة التي انكبّ عليها مهندس عمارة كألبرت شبير أو سينمائيّة ومصوّرة كليني رِفنستال حيث دوماً ينتصر «الإيمان» وتنتصر «الإرادة». وكان جوزيف غوبلز شديد الاهتمام بـ «إظهار قوّة ألمانيا العضليّة للعالم» على النحو الذي يسحر هذا العالم ويفقده اتّزانه.

وبدوره رأى الفيلسوف والناقد الألمانيّ فالتر بنجامين، الذي سكّ تعبير «جمْلَنة السياسة» (aestheticization of politics)، أنّ ما تفعله الفاشيّة هنا هو أنّها تُحلّ الصورة محلّ الإنجاز، وتُحلّ الشكل محلّ المضمون، مانحةً الناس تمكيناً وهميّاً يستعاض به عن الامّحاء أمام الديكتاتور وحزبه وأجهزة أمنه.

ولأنّ السحر يرفع توقّعات المسحور إلى سويّة خرافيّة يأتي الهبوط الذي يُحدثه الواقع مؤلماً جدّاً، إذ يهوي بذاك المسحور من مكان شاهق الارتفاع. وهذا، للأسف، بعض ما نراه اليوم.

فالأجدى، والحال هذه، أن نصارع كي نغادر السحر الذي لا يزول بمجرّد زوال السحرة. هكذا نروح نصدّق الحقائق ونكذّب الأكاذيب، ذاهبين إلى ما وراء الصورة والصوت المرتفع والعبارة الحماسيّة وتحريك الإصبع السبّابة. وإنّما بكَنْس السحر على هذا النحو نستعيد العقل، ونستعيد الحرّيّة أيضاً. وكلّما أسرعنا كان ذلك أفضل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل نتّجه إلى ما بعد السحر هل نتّجه إلى ما بعد السحر



GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

GMT 14:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

السلاح... أو حين يكون المكسب صفراً والهزيمة مطلقة

GMT 14:28 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من سيلحق بكندا... في «التعامل بالمثل» مع ترمب؟

GMT 14:24 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وخصومه في «حيْصَ بيْص»

GMT 14:23 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

سموتريتش وحقد الجِمال

GMT 14:19 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

القطبية الصينية ومسار «عالم الغابة»

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 19:13 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة
المغرب اليوم - ملف الصحراء المغربية يعود للواجهة ومؤشرات حسم دولية قريبة

GMT 17:33 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية
المغرب اليوم - باراغواي تعلن فتح قنصلية عامة في الصحراء المغربية

GMT 22:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل
المغرب اليوم - نتنياهو يؤكد أن قطاع غزة لن يشكل تهديدا لإسرائيل

GMT 17:49 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها
المغرب اليوم - بحضور النجوم إليسا تحتفل بعيد ميلادها

GMT 19:34 2025 الأربعاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب
المغرب اليوم - الشيخة حسينة تتحدث لأول مرة منذ الهروب

GMT 15:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 02:18 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

سهام العزوزي تتوج بلقب مسابقة "ميس أمازيغ" في دورتها الخامسة

GMT 14:13 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

فرقة «رضا» تتألق في الأقصر عاصمة السياحة لعام 2016

GMT 23:59 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

تعرف على تفاصيل طلاق "أبو جاد" وزوجته سارة

GMT 19:07 2019 السبت ,22 حزيران / يونيو

الكرنب يحتوي على مغذيات تحارب مرض الخرف

GMT 13:24 2019 السبت ,01 حزيران / يونيو

ودي تكشف عن موديلات S من سياراتها Q5 وA6 وA7

GMT 14:44 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

حرّاس صدام حسين يكشفون تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته

GMT 07:20 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الأغذية منخفضة الكربوهيدرات تسهم في علاج السكري

GMT 16:22 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

العروبة الإماراتي يتعاقد مع ياسين الصالحي لموسم واحد

GMT 20:51 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تستعد لتنظيم بطولة العالم للجمباز بمشاركة إسرائيلية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib