سيكون وقف إطلاق النار في غزّة الامتحان الأوّل أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سعيه إلى إثبات أنّ لديه سياسة شرق أوسطية تتجاوز ضيق الأفق الذي يتميز به اليمين الإسرائيلي وشخص بنيامين نتنياهو بالذات. ليس أمام اليمين الإسرائيلي مشروع سياسي واضح المعالم يأخذ في الاعتبار أنّ ليس في الإمكان التخلّص من الشعب الفلسطيني، مقدار ما لديه سلسلة من الحروب المستمرّة لا هدف لها سوى تكريس الاحتلال. سيكون وقف النار في غزّة دليلا على أن السياسة تغلّبت على منطق الحروب الذي لا فائدة تذكر منه باستثناء أن كلّ حرب تجرّ إلى حرب أخرى وإلى صراعات لا نهاية لها.
في النهاية، يمكن لتحوّل الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة إلى حرب إيرانيّة – أميركيّة، مع النتائج التي ستترتب على ذلك، أن يكون السيناريو الأقرب إلى الواقع. استوعبت طهران هذا التحوّل وبدأت تتصرف من منطلقه. كذلك يبدو أن إسرائيل مستعدة، أقلّه ظاهرا، لاستيعاب ما حصل وأن تقدم على خطوات تأخذ في الاعتبار ما يسعى إليه الرئيس دونالد ترامب. يشمل ذلك، في طبيعة الحال، التوصل إلى وقف حرب غزّة بموجب شروط معينة.
قررت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، في ضوء هذا التحول، الدخول في مفاوضات مع “الشيطان الأكبر” تفاديا للمزيد من الضربات الأميركيّة التي تستخدم فيها أسلحة أكثر فتكا من تلك التي استخدمت في ضرب المواقع النووية في فوردو ونطنز وأصفهان.
◄ الثابت أنّ نتنياهو صعب المراس. لكنّ الثابت أيضا أن لأميركا مصالح تتجاوز رغبات اليمين الإسرائيلي وطموحاته. لدى أميركا مصالح تشمل المنطقة كلّها وهي غير مستعدة لتركها فريسة سهلة للمنافس الأساسي المتمثل في الصين
كانت الضربات التي تلقاها النظام الإيراني قويّة، أكان ذلك على يد إسرائيل أو على يد سلاح الجوّ الأميركي. لكنّ ما لا بد من الاعتراف به أن ردّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” على إسرائيل فاق ما كانت تتوقعه الدولة العبريّة. كان ذلك على صعيدين. أولهما كثافة الصواريخ الإيرانية ونوعيتها والآخر دقة الإصابات التي شملت مواقع حيوية في إسرائيل. جعل ذلك القبة الدفاعية، المفترض أن تحمي إسرائيل من الصواريخ الإيرانية، تواجه صعوبات حقيقية في مواجهة الترسانة الصاروخيّة الإيرانية. ليس بعيدا عن الواقع، الكلام الذي تسرّب عن أن أميركا أنقذت إسرائيل في الوقت المناسب وأجبرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” على وقف إطلاق النار بعدما هددتها باستخدام المزيد من القنابل التي تمتلك قوة تدميرية كبيرة تفوق تلك التي استخدمت في فوردو ونطنز.
أخذ بنيامين نتنياهو مبادرة مهاجمة إيران في الثالث عشر من حزيران – يونيو الماضي. وضع دونالد ترامب أمام أمر واقع قبل يومين من جولة جديدة من المفاوضات الإيرانيّة – الأميركية.
تبيّن، في ضوء الهجوم الإسرائيلي الذي فاجأ “الجمهوريّة الإسلاميّة” وكبّدها خسائر ضخمة، خصوصا على صعيد القيادات العسكرية والعلماء النوويين، أنّ لا غنى لإسرائيل عن القوة العسكرية الأميركية في المدى الطويل. حصل أنّه بات على إسرائيل الاستنجاد بالولايات المتحدة في حال كانت تريد تفادي حرب استنزاف طويلة الأمد مع إيران. ستحتاج في تلك الحرب إلى ذخائر وصواريخ تقيها من الصواريخ الإيرانيّة. لا وجود لجهة غير أميركا تستطيع إمداد إسرائيل بما تحتاج إليه.
جاءت الضربة الأميركيّة لإيران في اللحظة التي شعر بها ترامب بالضعف الإسرائيلي. استعاد الرئيس الأميركي المبادرة سياسيا وعسكريا. مثلما أنقذ ترامب “المرشد الأعلى” علي خامنئي من عملية اغتيال كان في استطاعة الجيش الإسرائيلي تنفيذها، أنقذ إسرائيل من حرب استنزاف، كلفتها عشرات الملايين من الدولارات يوميا، هي في غنى عنها.
الواضح أن النظام الإيراني فهم معنى تفادي استفزاز الرئيس الأميركي. بدا ذلك واضحا من قصف قاعدة العيديد الأميركيّة في قطر. جرى ترتيب العملية كلّها بالتفاهم بين الأميركيين والإيرانيين، وربّما القطريين، في ضوء حاجة النظام الإيراني إلى إنقاذ ماء الوجه، لا أكثر.
◄ في النهاية يمكن لتحوّل الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة إلى حرب إيرانيّة – أميركيّة مع النتائج التي ستترتب على ذلك أن يكون السيناريو الأقرب إلى الواقع… استوعبت طهران هذا التحوّل وبدأت تتصرف من منطلقه
ما الذي سيترتب على المعادلة الجديدة التي جعلت “بيبي” نتنياهو يتصرف بمرونة أكثر مع الرئيس الأميركي الذي يقف معه داخل إسرائيل نفسها حيث طالب بوقف محاكمته؟ الجواب أنّه لم يعد مستبعدا مراعاة الحكومة الإسرائيلية لرغبة ترامب في التوصل إلى صفقة في غزّة. ليس سرّا أن إسرائيل تعدّ لحملة عسكريّة جديدة على غزّة تشمل اجتياحا برّيا واسعا. لكنّه ليس سرّا أيضا أنّ الإدارة الأميركية تنظر إلى ما هو أبعد من غزة. إنّها تنظر إلى موقع إسرائيل في المنطقة عن طريق توسيع الاتفاق الإبراهيمي ليشمل دولا أخرى مثل سوريا على سبيل المثال وليس الحصر.
الأهم من ذلك كلّه، أنّ واشنطن باتت مقتنعة بأن الجائزة الكبرى، على الصعيد الإقليمي، أي التطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة وإسرائيل ليس ممكنا من دون تسوية سياسية تضمن قيام دولة فلسطينية في ظلّ شروط معيّنة. في مقدّم هذه الشروط أن تكون هذه الدولة مسالمة بقيادة جديدة لا علاقة لها بـ”حماس” ولا بالذهنيّة التي تتحكّم بالسلطة الوطنية القائمة التي على رأسها محمود عبّاس (أبومازن). نصّب “أبومازن” نفسه رئيسا لمدى الحياة غير مدرك أن الشعب الفلسطيني يستأهل أن يكون على رأس الدولة الفلسطينية شخص يمتلك الحدّ الأدنى من المعرفة بما يدور في العالم.
هل استعاد ترامب المبادرة من بنيامين نتنياهو؟ ذلك هو سؤال مرحلة ما بعد تحوّل الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية إلى حرب إيرانيّة – أميركيّة تشهد حاليا مرحلة استعداد للتفاوض مجدّدا بين الجانبين…
الثابت أنّ “بيبي” نتنياهو صعب المراس. لكنّ الثابت أيضا أن لأميركا مصالح تتجاوز رغبات اليمين الإسرائيلي وطموحاته. لدى أميركا مصالح تشمل المنطقة كلّها وهي غير مستعدة لتركها فريسة سهلة للمنافس الأساسي المتمثل في الصين. لهذا السبب، بين أسباب أخرى، كان انتقال الحرب من حرب إيرانيّة – إسرائيلية إلى حرب إيرانيّة – أميركية. يظهر دونالد ترامب، من خلال دخوله الحرب وخروجه منها بالطريقة التي فعلها، أنّه رئيس الولايات المتحدة المقيم في البيت الأبيض… بغض النظر عمّا يعتقده “بيبي” الذي يعتقد أنّ في استطاعته التلاعب بالرؤساء الأميركيين على غرار ما فعله بباراك أوباما!