لا ترفعوا الراية البيضاء

لا ترفعوا الراية البيضاء

المغرب اليوم -

لا ترفعوا الراية البيضاء

توفيق بوعشرين


أقدمت الحكومة على اتخاذ قرارات مهمة، وأخرى أقل أهمية، طيلة ثلاث سنوات ونصف من عمرها في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، مثل تقليص نفقات صندوق دعم المحروقات الذي كان ريعه يذهب إلى جيوب الأغنياء قبل الفقراء، وتخفيض ثمن عدد مهم من الأدوية، والرفع قليلا من قيمة منح الطلبة التي لم تتحرك منذ عقود، وإقرار تعويضات رمزية للأرامل والمطلقات المعوزات، والشروع في تطبيق التعويض عن فقدان الشغل ولو بالحد الأدنى للأجور… لكنها تقف عاجزة، منذ أربع سنوات، أمام ملف البطالة.. لا برامج ذكية، ولا حلول استعجالية، ولا خطة طموحة لخلق مناصب الشغل في سوق راكد. في بداية ولاية حكومة بنكيران، تشكلت لجنة برئاسة وزير الدولة الراحل عبد الله بها، للتفكير في معضلة الشغل، لكن اللجنة ماتت قبل أن يدفن رئيسها…

كل سنة يدخل إلى سوق الشغل حوالي 200 ألف شاب، لا يجد منهم وظيفة قارة في القطاع العام كما الخاص سوى 30 إلى 35 ألف شاب.. الباقون ينضافون إلى طابور العاطلين عن العمل أو من هم شبه عاطلين.

يبدو أن الحكومة أنزلت يدها أمام البطالة، واكتفت بالوعظ والإرشاد دون أن تصل إلى تطبيق إجراءات فعالة لتحريك سوق الشغل.

البطالة معضلة كبيرة في كل دول العالم، لكن هذا لا يعني أن العالم رفع الراية البيضاء أمام هذه المشكلة، فهناك في أوروبا حلول كثيرة استعملت للحد من البطالة، ويبدو أننا بحاجة إلى استعراضها والتذكير بها لتنشيط عقول السياسيين عندنا، بهدف تنبيههم إلى أن البطالة ليست قدرا محتوما، وأن القضاء عليها غير مستحيل، لكن حصارها ممكن إلى أدنى نسبة، وهي 5٪…

في ألمانيا، مثلا، لجؤوا إلى تقنيات عدة لتسهيل الدخول والخروج من الوظيفة، عامة كانت أو خاصة، مثل عقود الشغل التي يمكن فسخها بسهولة دون أضرار كبيرة للمقاولات، خاصة التي تواجه صعوبات أو يتعرض نشاطها لتقلبات السوق. في البداية، اعترضت النقابات واليسار على هذا الإجراء، وبعد سنة من تطبيقه مع حزمة إجراءات أخرى، مثل التخلي عن الحد الأدنى للأجور مؤقتا، وترك هذه الأخيرة محل تفاوض بين المقاولة والعامل، فوجئ الجميع بخلق مليون منصب شغل لأن المقاولات صارت أكثر جرأة على التشغيل مادام فسخ العقود لا يرتب جزاءات كبيرة.

في بريطانيا أقروا عدة أنواع من عقود الشغل، بما في ذلك عقود فيها ساعة أو ساعتان من العمل أو نصف يوم. هناك رجال ونساء لا يرغبون سوى في العمل لساعات قليلة لأن لهم انشغالات أو أعمالا حرة أخرى، وهكذا جرى إخراج آلاف المواطنين من لائحة العاطلين عن العمل بإجراء بسيط.. تغيير مفهوم الوظيفة وساعتها القارة ومكانها وجغرافيتها.

هناك دول أخرى فرضت على العمال الأقل تكوينا أجورا بسيطة بالقانون لدفعهم إلى أن يرجعوا إلى مقاعد التكوين أو الدراسة أو التدريب، لأن هذا هو الحل الوحيد لكي يبقى العامل عاملا.. أن يتطور مع سوق شغل يتحرك مثل كثبان الرمل، وهناك من الدول من أجبرت المقاولات على اقتطاع نسبة من أجور العاملين الذين يرفضون متابعة التكوين، ووضعها (نسبة من الأجر) في صندوق تمويل التكوين وإعادة التأهيل. هناك دول وضعت برامج لتمويل آلاف المقاولات الصغيرة للشبان حديثي العهد بالتخرج، ودخول الدولة شريكا مع المقاولات التي يظهر أنها تمتلك حظوظا للنجاح، وذلك لتسهيل ولوج هذه المقاولات الوليدة للقروض والصفقات والسوق، على أن تخرج الدولة من رأسمال هذه المقاولات الناشئة بعد أن تقف على رجليها. هناك دول أخرى، بشراكة مع القطاع الخاص، خلقت أبناكا برأسمال عالي المخاطر لتمويل مشاريع الشباب والعاطلين وأصحاب الأفكار والاختراعات… دعك من خطط أخرى لتخفيض الضرائب عن القطاعات التي تخلق فرص عمل أكبر، ورفعها عن المقاولات التي لا تشغل أيدي عاملة كبيرة، ودعك من احترام التنافسية ومنع الاحتكار، وصرف تعويضات مادية للفئات الهشة، ومحاربة الفساد، وملاحقة المتهربين من الضريبة، وغيرها من مقومات الحكامة والإدارة الحديثة للدول. كل هذا يساعد الدولة على امتلاك أسلحة فعالة لمجابهة البطالة. مشكلتنا في المغرب أن الدولة اليوم قوية أمنيا، لكنها ضعيفة اقتصاديا، ليست لديها أدوات فعالة للتدخل في الاقتصاد، فهي، إلى الآن، عاجزة، مثلا، عن إدخال ثلث النشاط الاقتصادي إلى المجال المنظم formel، الذي يؤدي الضريبة ويتحمل الأعباء العامة، حيث مازالت نسبة كبيرة من التجارة تتحرك في l’informel…

لا توجد وصفة سحرية ولا نموذجية لقهر البطالة التي أصبحت لها كلفة سياسية واجتماعية واقتصادية عالية اليوم في المغرب. كل بلد يفكر ويخطط لحصار وحش البطالة حسب ظروفه وأحواله واقتصاده، لكن الانسحاب من المعركة هو الأمر غير المسموح به. رفع الراية البيضاء، والوقوف من بعيد للتفرج على قطاعات كبيرة من الشباب يفترسها الفقر والتهميش والتطرف.. هذه جريرة ترقى إلى مستوى الجريمة…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا ترفعوا الراية البيضاء لا ترفعوا الراية البيضاء



GMT 20:14 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

بيروت والكلام المغشوش

GMT 20:11 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

التغييرات المناخية... الأمل بالطيران في بيليم

GMT 20:05 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

انتحار الصِغار و«رقمنة» اليأس

GMT 20:00 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

الحبل السُّرِّي بين العالم العربي وحل الدولة الفلسطينية

GMT 19:47 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

عالم من الضواري

GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 21:29 1970 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء
المغرب اليوم - العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء

GMT 17:25 2013 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"ماوس" تطفو اعتمادًا على دوائر مغناطيسية

GMT 09:48 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم "الشلال" يسعى إلى جذب زبائنه بشتى الطرق في الفليبين

GMT 23:15 2023 السبت ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سان جيرمان يكتسح ستراسبورغ بثلاثية في الدوري الفرنسي

GMT 08:04 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سلطنة عمان تحذر مواطنيها من خطورة السفر إلى لبنان

GMT 22:31 2023 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي مهدي بنعطية مرشح لمنصب مدير رياضي بفرنسا

GMT 08:16 2023 الأربعاء ,13 أيلول / سبتمبر

أبرز الأخطاء الشائعة في ديكورات غرف النوم الزوجيّة

GMT 16:04 2023 الإثنين ,11 أيلول / سبتمبر

150 قتيلا جراء الفيضانات والأمطار الغزيرة في ليبيا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib