صناديق الاقتراع الذكية

صناديق الاقتراع الذكية

المغرب اليوم -

صناديق الاقتراع الذكية

توفيق بوعشرين


خسر أردوغان وحزبه الأغلبية المطلقة لأول مرة بعد 13 سنة في الحكم، لكن الديمقراطية التركية ربحت. خسر حزب العدالة والتنمية حوالي مليونين ونصف مليون صوت في انتخابات الأحد الماضي، لكن تركيا كسبت نظاما ديمقراطيا لم يعد مهددا بتدخل العسكر لإجهاضه، بعد أن روضت الحكومات الثلاث المتعاقبة مؤسسة الجيش، وجعلتها تقبل بأصول اللعبة، وتقتنع بأن السياسة شغل السياسيين، وأن الاقتصاد في السوق الحرة، وأن السلاح آلة تحمي الأوطان وتخضع للشرعية المنبثقة عن إرادة الأمة.

يبدو أن الناخب التركي تصرف بذكاء كبير أمام صندوق الاقتراع يوم الأحد الماضي.. كافأ الحزب الذي قاد تركيا إلى تقدم اقتصادي واجتماعي كبير، وأعطاه المرتبة الأولى بـ255 مقعدا من أصل 550، لكنه لم يعط أردوغان شيكا على بياض حتى لا يتحول من رئيس إلى سلطان، من منتخب إلى زعيم متسلط، من رئيس في نظام برلماني بسلط محدودة إلى حاكم في نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية، وهذا هو ذكاء الشعوب الحية، تعرف كيف تتبع قادتها على طريق النجاح، لكنها في الوقت المناسب تعرف كيف توقفهم عند حدود معينة.

في المجتمعات التقليدية كان رجل السياسة سيد حرب، ثم تحول إلى كاهن، ثم أصبح ملكا، ثم انتهى في أيامنا هذه إلى مجرد  منتخب. كان رجل السياسة مقاتلا، ثم مبشرا، ثم ملكا، والآن هو منتخب في مهمة محددة في الزمان والمكان، وظيفته إدارة السلطة والثروة لفائدة المجتمع، وحماية النظام ومبادئ المساواة  ودولة القانون  وحقوق الإنسان، وحق كل مواطن في الأكل والشرب والنوم والشغل والسفر والتعليم والعيش في سلام…

هذا هو رجل السياسة اليوم، وظيفته إدارة المخاطر المحيطة بالمجتمع، والتقليل منها إلى الحدود الدنيا، وهنا يتنافس المتنافسون أمام صناديق الاقتراع التي لا تعطي أحدا شيكا على بياض، ولا تنصب حاكما، كائنا من كان، سلطانا أو قديسا أو مبشرا أو حتى زعيما.

هذه إحدى الحقائق التي غابت عن السيد رجب طيب أردوغان وهو يسعى إلى تغيير طابع الجمهورية التي أسسها الأب أتاتورك.  لقد اغتر ابن حارة قاسم باشا بالنصر الكبير الذي حققه في انتخابات كثيرة فاز بها عن جدارة واستحقاق، وتصور أن طموح تركيا إلى أن تصير قوة كبرى يمر بالضرورة عبر جمع كل السلط بين يديه باعتباره صاحب البوصلة الوحيدة التي تؤشر على اتجاه النمو والتقدم.

السبب الثاني وراء تراجع قوة حزب العدالة والتنمية  في الانتخابات الماضية هو خسارة أصوات الأكراد الذين تمكنوا من دخول البرلمان كقائمة وطنية، واستطاعوا اجتياز عتبة العشرة في المائة الموضوعة كعتبة لولوج قبة التشريع،  ولو لم يحصلوا على هذه النسبة لكانت أصواتهم ذهبت إلى الحزب الأول، لكن الأكراد  هذه المرة عبروا إلى البرلمان وهم، في غالبيتهم، ليسوا على ود مع أردوغان وحزبه، رغم أنه قاد مصالحة كبيرة مع زعمائهم، خاصة حزب العمال الكردستاني، الذي يقوده من السجن عبد الله أوجلان. القاعدة في الديمقراطية تقول إن الإصلاحات التي يقوم بها أي حزب لا تعني أنه سيقبض ثمنها مباشرة من صندوق الاقتراع، فقد نجح زعماء كبار في ربح حروب كبرى، ثم عاقبهم الناخب بإحالتهم على التقاعد المبكر. أذكر هنا الجنرال دوغول والسياسي الكبير تشرتشل كنموذجين فقط، فهناك الكثيرون غيرهما.

الآن على أردوغان وحزبه أن يدخلا إلى قاموسهما السياسي كلمة «الحكومة الائتلافية»، وأن يبحثا عن توافقات مع الأحزاب الأخرى، وأن يصرفا النظر عن مشروع تغيير الطابع البرلماني للنظام، وأن يفتحا أعينهما على المخاطر المحيطة بأنقرة ونموذجها الذي لا يعجب الغرب ولا يرضي الديكتاتوريات العربية. ألم تروا أن الأنظمة السلطوية في المنطقة مسرورة بفقدان أردوغان للأغلبية، وتصور تراجعه في الانتخابات الأخيرة كأنها هزيمة نكراء، مع أنه جاء الأول وبفارق كبير عن الحزب الثاني، وبعد 15 سنة من حكم البلاد. الشيء الطبيعي ألا يحصل الحزب الذي حكم لثلاث ولايات متتالية على المرتبة الأولى في الانتخابات، لا أن يفوز بـ41٪ من الأصوات.

التجربة التركية نجحت في تحقيق إقلاع اقتصادي كبير، ونجحت في تأمين الانتقال الديمقراطي من تدخلات الجيش، ونجحت في مصالحة الإسلاميين مع الديمقراطية، ونجحت في تليين مفاصل العلمانية المتصلبة لتقبل بالطابع المحافظ لجزء كبير من المجتمع، بحيث تصير العلمانية آلية لتحييد الدولة في الشؤون الدينية، بعدما كانت العلمانية الأتاتوركية تعني معاداة الدولة للدين. هذه هي النجاحات التي ربحتها تركيا، أما حزب العدالة والتنمية، فاز أم خسر، فهذا ليس مهما في الحسابات الاستراتيجية للأمم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صناديق الاقتراع الذكية صناديق الاقتراع الذكية



GMT 20:14 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

بيروت والكلام المغشوش

GMT 20:11 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

التغييرات المناخية... الأمل بالطيران في بيليم

GMT 20:05 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

انتحار الصِغار و«رقمنة» اليأس

GMT 20:00 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

الحبل السُّرِّي بين العالم العربي وحل الدولة الفلسطينية

GMT 19:47 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

عالم من الضواري

GMT 14:43 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 14:41 2025 السبت ,25 تشرين الأول / أكتوبر

في حب الصحراء: شريان الحياة

GMT 14:38 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الرئيس والممسحة

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 21:29 1970 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء
المغرب اليوم - العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء

GMT 17:25 2013 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"ماوس" تطفو اعتمادًا على دوائر مغناطيسية

GMT 09:48 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم "الشلال" يسعى إلى جذب زبائنه بشتى الطرق في الفليبين

GMT 23:15 2023 السبت ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سان جيرمان يكتسح ستراسبورغ بثلاثية في الدوري الفرنسي

GMT 08:04 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سلطنة عمان تحذر مواطنيها من خطورة السفر إلى لبنان

GMT 22:31 2023 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي مهدي بنعطية مرشح لمنصب مدير رياضي بفرنسا

GMT 08:16 2023 الأربعاء ,13 أيلول / سبتمبر

أبرز الأخطاء الشائعة في ديكورات غرف النوم الزوجيّة

GMT 16:04 2023 الإثنين ,11 أيلول / سبتمبر

150 قتيلا جراء الفيضانات والأمطار الغزيرة في ليبيا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib