مَن قال ليس حقيبة

... مَن قال ليس حقيبة؟

المغرب اليوم -

 مَن قال ليس حقيبة

بقلم - علي الرز

"آه يا جرحي المكابر

وطني ليس حقيبة

وأنا لست المُسافر

انني العاشق والأرض حبيبة..."

مع الاعتذار الكامل من المُبْدِع الراحل محمود درويش، تثبت صورة المُهاجر قسراً من الغوطة أن الوطن حقيبة، وان الأرض سليبة وليست حبيبة، وأن السفر نجاة ... والمُكابرة في الجرْح تزيده تَقرُّحاً.

صورةُ الرجلِ الذي نَقَلَ فلذة كبده في حقيبةٍ، تُغْني عن ألف بيت شعر بعدما ثُقب بيتُه الإسمنتي بألف قذيفة. صورةٌ تعيد صاحبَها الى المعلّقات فيرقد تحت خيمةٍ مع أولاده وزوجته وكسرات الخبز التي تجود بها الأمم المتحدة، ثم إذا حالفتْه تفعيلةُ الضميرِ النائمة على بحر الرجز او المجتث يعود الى بيت القصيد ... الى أطلاله، فيقف باكياً من ذكرى وطنٍ طارِد وعالَمٍ كاذبٍ حقير.

الوطن حقيبة سفر؟ انه المُنى والحلم. محظوظٌ منَ يَعْبُر بين خطوط التماس وتَقاطُع القذائف الى خيمةٍ في مخيمٍ أو كوخٍ من صفيح. وإذا خَيّرْنا ابن الغوطة اليوم كما خَيّرْنا نظراءه في مناطق أخرى أمس بين حقيبة السفر وحَقَبَة القدَر فماذا يختار؟

بعيداً من صورتنا في بيوتٍ لها حرمتها ومناطق لها حمايتها ومكاتب عمل تتوافر فيها كل عوامل الراحة، هناك في الغوطة صورة أخرى ... آخِر ما تريده بيتاً من الشعر او بياناً من مُعارِض او أملاً في يقظةٍ دولية. صورةٌ يبدو فيها المَشهد كالتالي:

منطقةٌ محاصَرة منذ أعوام، لا غذاء ولا دواء ولا هواء نقياً ولا مياه ولا أمن ولا أمان.

منطقةٌ خضعتْ جغرافيتُها للتغيير وبنيتُها السكانية للتشويه، فأَدخل اليها النظام أوراقَ مبرّراته من متطرّفين مسلّحين تماماً كما خلق مع محور الممانعة خلافة الخرافة.

منطقةٌ عانتْ من صراعاتِ القوى القديمة والحديثة قبل معاناتها الراهنة، تماماً كما كان يحصل في أماكن اخرى تتقاتل فيها فصائل "جهادية" ممهِّدةً لقبولٍ شعبي بعودةِ النظام.

منطقةٌ بقيتْ صامدةً بناسها وأهلها وهي تدرك أنها على تخوم العاصمة وأنها ستدفع ثمناً كبيراً بسبب موقعها ومَناعتها. لم تتعب لا مِن كُرْهِ النظام ولا من رفْضِ محاولاتِه المستمرة للتطويع والمهادنة، ولم تنطلِ عليها شعاراتُ "المجاهدين الجدد" الذين وَجدوا المَعابر مفتوحةً من جهة النظام للدخول إليها.

منطقةٌ توقّعتْ ان تكون ساعة المواجهة بالنسبة إليها ساعة إبادة. توقّعتْ كل شيءٍ إلا صمْت العالم حتى على استخدام نظام البراميل مجدداً للسلاح الكيماوي. توقّعتْ كل شيءٍ إلا عدم قدرة فصائل المعارضة في الخارج على تنفيذ اعتصاماتٍ تتخلّلها إضراباتٌ عن الطعام واكتشفتْ أن موت أبنائها ليس أصعب على بعض المعارضين من جوعهم.

منطقةٌ أعاد النظام وإيران وروسيا وكل الميليشيات المُمانِعة رسْم حدودها بالدم والمَجازر. الوطنُ بالنسبة الى أبنائها موتٌ، والوطنيةُ كفنٌ، والنشيدُ صوتُ الصواريخ والبراميل والقذائف، والهواءُ غاز السارين، والسيادةُ أنقاض المباني، والعلمُ جمجمةٌ وعظْمتان، والشوارعُ مقابر، والملاجىء توابيت، وشعبُها جثثُ أطفالٍ ونساءٍ وكهولٍ وشبانٍ يَستعذبُ أولادُ الشرِّ التمثيل بها تارةً بمضاعفة الأعداد وطوراً بالإدعاء أنها تخضع لإخراجٍ تصويري كي تستدرّ عَطْفَ عالمٍ ... نائم.

وبعد ذلك كله، ألا تبدو صورة الوطن - الحقيبة سفينةَ نجاةٍ؟ ألا يبدو السفر في بحور الهجرة أجْدى رغم كل مآسيه من السفر في بحور الشعر؟ فعذراَ درويش، يا مَن كَتَبْتَ عن التمسك بالوطن والأرض ضدّ همجيّة اسرائيل. ليتَ الله أمدّ في عمرك قليلاً لترى ان الاسرائليين الذين حققوا أرقاماً عالميةً قياسيةً في الوحشية يقفون كالتلاميذ اليوم في مدرسة الأسد وحلفائه. 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 مَن قال ليس حقيبة  مَن قال ليس حقيبة



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

GMT 00:48 2016 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

شيماء الزمزمي بطلة للمغرب في رياضة الجمباز

GMT 17:43 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 08:56 2019 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تنصيب ناروهيتو إمبراطورا لليابان رسمياً

GMT 17:34 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحتضن أول بطولة عربية في مضمار الدراجات «بي.إم .إكس»

GMT 08:59 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

هيفاء وهبي تؤكد وجود الكثير من النساء الذين يفقنها جمالًا

GMT 04:17 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

الدرك الملكي يحجز كمية مهمة من المواد المنظفة المزيفة

GMT 13:09 2012 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

اليمن: حملة توعية بالحديدة بأهمية حماية البيئة

GMT 15:36 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

تشييع جثمان الجنرال دوكور دارمي عبد الحق القادري
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib