إذاعة أتلفها الهوا

إذاعة أتلفها الهوا!

المغرب اليوم -

إذاعة أتلفها الهوا

حسين شبكشي
بقلم : حسين شبكشي

مع الإعلان الأخير الصادر عن هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية، المعروفة باسم الـ«بي بي سي»، عن قرارها إغلاق إذاعة الـ«بي بي سي» (وإذاعات أخرى ناطقة بلغات مختلفة غير الإنجليزية)، خرجت ردود فعل متناقضة ومتفاوتة في حدتها، ما بين مؤيد للقرار وشامت فيه، وما بين متأسف وحزين بسببه؛ فالأول يحمّل القناة أنها «أداة استعمارية خبيثة» ساهمت في تفتيت العالم وتدميره بـ«نشر الأكاذيب وصناعة الفتن»، فيما يحن الفريق الآخر لزمن كانت فيه هذه المحطة النافذة الإعلامية الأولى لتقصي الأخبار والمعلومات، بالإضافة إلى كنوز من المعرفة والثقافة والعلوم المقدمة من خلال برامجها المتنوعة.
خرجت فكرة بث إذاعة باللغة العربية من العاصمة البريطانية لندن، منذ أكثر من ثمانية عقود من الزمن، رداً على بث كان قد سبقها موجهاً للعالم العربي من العاصمة الإيطالية روما، التي كانت وقتها واقعة تحت سيطرة النظام الفاشي المتطرف.
وحينها كانت الصراعات بين القوى الاستعمارية الكبرى في أوجها، وكان الإعلام الإذاعي هو أقوى الوسائل المتوفرة للتأثير على الرأي العام والجماهير حول العالم.
ونَمَت قدرات الـ«ـبي بي سي العربية» مع مرور الوقت، وزاد تعلق الناس بها، وباتوا ينتظرون دقات ساعة «بيغ بن» الشهيرة، ويليها عبارة: «هنا لندن»، وهي تعلن بداية النشرة الإخبارية. وكانت ذروة إثبات الجدارة والمصداقية والاعتمادية بالنسبة للمحطة في علاقتها مع المستمع العربي، هي تغطيتها لحرب عام 1967، عندما نقلت أخبار هزيمة الجيوش العربية القاسية بتفاصيلها، فيما كان الإعلام الرسمي في الدول العربية المشاركة في الحرب ينقل عكس ذلك تماماً.
وفتح هذا النجاح المهم للمحطة الإخبارية مع الوقت شهية الآخرين من الدول المؤثرة لإطلاق قنواتهم الإذاعية (ومن بعدها التلفزيونية)، من فرنسا والولايات المتحدة والصين وروسيا وتركيا وألمانيا والهند... كلها موجهة للعالم العربي، وناطقة بلسانه، وتغطي أحداثه.
ولم يكن هذا الانتشار ممكناً بطبيعة الحال إلا بوجود الفراغ الإعلامي في العالم العربي، وغياب مؤسسات مهنية محترفة مستقلة.
ومع مرور الوقت تأثرت قناة الـ«بي بي سي العربية» بالحراك السياسي الحاصل في المنطقة العربية، وأسرت نفسها في إطار العقلية اليسارية التقليدية تارة، ومنهجية الإسلام السياسي تارة أخرى، وفاتها أن تقرأ المتغيرات الجديدة الحاصلة في العالم بصورة عامة، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.
خرجت قناة الـ«بي بي سي العربية» إلى الوجود باعتبارها قناة موجهة للنخبة المثقفة والقادرة مادياً؛ فاقتناء جهاز المذياع وقتها لم يكن بمقدور الجميع، وظل هذا نهجها مع الوقت، وبدأت تفقد الكثير من الزخم مع ظهور التلفزيون والفضائيات المصاحبة له، التي قدمت خيارات غير محدودة، وأصبح المشاهد قادراً على البحث عما يريد بسهولة. وطبعاً جاءت بعدها ثورة الاتصالات والشبكة العنكبوتية والإنترنت المفتوح الذي أعاد هندسة صناعة الإعلام برمته.
إغلاق الـ«بي بي سي» لقناتها الإذاعية باللغة العربية كان بسبب نيتها التركيز، بشكل أساسي، على الإعلام الرقمي (وهناك موقع إخباري موجود ومهم جداً تقدمه باللغة العربية)، ومن ثم فالموضوع لا علاقة له بالوسيلة، ولكن بالتحرير والمادة المقدمة... هناك من يراهن على أفول تأثير وقوة الوسيلة الإذاعية لتلحق بما أصاب الصحف والمجلات الورقية، وما سيصيب التلفزيون في خلال سنوات قليلة قادمة، بسبب قوة وأهمية الإعلام الرقمي الجديد.
مع تزايد حالات الاستقطاب الحاد في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية، يزداد الاحتياج إلى الوسائل والمنصات الإعلامية التي تغذي وتعيش على هذا الاستقطاب، مع عدم إغفال - وأهمية - أن عالم الإنترنت والإعلام الرقمي منح للأشخاص حرية الحصول على المعلومة من مصادرها، ومكّنهم من تكوين رأيهم بشكل غير مسبوق، مما كانت ترجمته عملياً أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة وحده، وأن أي إعلام يوجّه بـ«نكهات مضافة إليه» للتأثير عليه، سيتمكن الجمهور المستهدف من كشف ذلك بشكل بسيط ويسير.
الإعلام التقليدي بمختلف أشكاله يواجه تحدياً وجودياً استثنائياً، وهناك هرولة واضحة للحاق بالركب الإعلامي الرقمي، ولكن هذا لن يكون ضمانة للبقاء، ولا المصداقية، ولا الجدارة، ولا الاعتمادية، إذا ما كان المحتوى المقدم لا يحترم المتلقي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إذاعة أتلفها الهوا إذاعة أتلفها الهوا



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

شريهان تتألق بالملابس الفرعونية في احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير

القاهرة _ المغرب اليوم

GMT 21:19 2025 الأحد ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

هولندا تعيد تمثالاً فرعونيًا عمره 3500 عام إلى مصر
المغرب اليوم - هولندا تعيد تمثالاً فرعونيًا عمره 3500 عام إلى مصر

GMT 17:55 2025 الإثنين ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

بوادر هدنة في السودان وتوقعات بلقاء قريب بين البرهان وحميدتي
المغرب اليوم - بوادر هدنة في السودان وتوقعات بلقاء قريب بين البرهان وحميدتي

GMT 18:48 2025 الإثنين ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

مايكروسوفت توقع صفقة حوسبة ضخمة بقيمة 9.7 مليار دولار
المغرب اليوم - مايكروسوفت توقع صفقة حوسبة ضخمة بقيمة 9.7 مليار دولار

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 13:46 2020 السبت ,18 كانون الثاني / يناير

القلق يسيطر علي إدارة اتحاد طنجة بسبب النتائج السلبية

GMT 09:54 2019 السبت ,16 آذار/ مارس

ديكورات حدائق منزلية صغيرة خارجية مميزة

GMT 08:36 2018 الثلاثاء ,06 شباط / فبراير

تعرفي على كيفية صنع صبغات شعر طبيعية لتغيير لونه

GMT 07:36 2018 الثلاثاء ,06 شباط / فبراير

"مرسيدس الفئة S" تمثل أفضل سيارة في العالم

GMT 09:53 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

AZZARO WANTED العطر المناسب للرجل الذي لا يعرف المستحيل

GMT 14:11 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

أتلتيكو مدريد يلجأ إلى أسلوب ذكي ليحشد الجماهير في الملعب

GMT 07:50 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل المعاطف للشتاء بأسعار معقولة وألوان حيادية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib