حين تثأر الإمبراطوريات المجروحة

حين تثأر الإمبراطوريات المجروحة

المغرب اليوم -

حين تثأر الإمبراطوريات المجروحة

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

نصحني الرَّجلُ المجرّب. قال: «وأنتَ تكتب عن أزماتِ الحاضر لا تنسَ جروحَ التاريخ». استوقفنِي الكلام. يعتقد المتحدّثُ أنَّ العالمَ يتَّجهُ نحو مرحلةِ بالغة الخطورةِ تتميَّزُ بانحسارِ هيمنة «القوة العظمى الوحيدة»، وتقدّم إمبراطورياتٍ سابقة للثأر عبر عمليات انقلاب كبرى ستغيّر خرائطَ توزيع النفوذ إذا لم تغيّر مباشرة حدودَ الخرائط. رأى أنَّ الانقلابات تتَّخذ أشكالاً مختلفة، بينها الاجتياح العسكري أو الاجتياح الآيديولوجي، فضلاً عن الصواريخ العابرة للحدود والمسيرات والهجمات السيبرانية ورعاية الميليشيات.

هل استيقظت جروح الإمبراطوريات التي تعتقد أنَّ التاريخ غدر بها، وقلَّصَ أرضَها وهالاتِها ودورَها؟ وهل هناك في روح الإمبراطوريات السابقة براكينُ كامنةٌ تنتظر فرصةَ التعبير عن غضبِها وحممها؟

ذكَّرني كلامُ الرجلِ بما كنت قد سمعتُه من عددٍ من قادة الشيوعيين العرب بعد تواري الاتحادِ السوفياتي. تشابهت ردودُ محمد إبراهيم نقد سكرتيرُ الحزب الشيوعي السوداني مع نظيريه العراقي واللبناني عزيز محمد وجورج حاوي. قالوا إنَّ روسيا لن تقيمَ تحت ثلوجِ الهزيمة، ولن تتحوَّلَ دولةً تابعة، وإنَّها ستستجمع قواها، وتنهض وتثأر.

يصل الأمر ببعض المتابعين إلى حدّ القول إنَّ المؤسسةَ العسكريةَ والأمنية الروسية التي هالها تفكُّكُ الاتحادِ السوفياتي والانتصار الغربي المروع وضعت مشروعاً سرياً للثأر، وأوكلت مهمة تنفيذه إلى ضابطٍ صغير في جهاز الـ«كيه جي بي». أنا لا أتبنَّى هذه النظريةَ لأنَّني أخاف من الإفراط في حياكة السيناريوهات. لكن من حقّ المرءِ أن يفكّرَ في أنَّ روسيا المجروحة تعيش حالياً في عهدة قيصر مجروح يحمل أكبرَ مشروعِ انقلاب بعد الحرب العالمية الثانية.

لنترك جانباً الهجومَ الإرهابيَّ الذي ضربَ موسكو قبل أيام. هذه المذبحة الرهيبة لن تهزَّ سطوةَ بوتين العائد من تفويض شعبي كاسح لا يمكن أن يحلمَ بمثله بايدن أو ترمب أو ماكرون أو شولتس. أعرف ما يقوله الغربُ عن أنَّ القيصر صمَّم بنفسه أزياء عملية انتخابية دون منافس جدي. لكنَّني أعتقد أنَّ بوتين نجح في الاتصال بعمق الروح الروسية. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي شاهدت في شوارع موسكو مسنّينَ يجاهرون بحنينهم إلى أيام جوزيف ستالين. الروسي يحبُّ الحاكمَ القوي وإن تلاعبَ بالمصائر، وقطع الأعناق والأظافر.

يعتقد الرجل الذي يعرف بوتين أنَّ الأخيرَ لا يستطيع احتمالَ هزيمة في أوكرانيا حتى لو أدَّى الأمرُ إلى اللعب على أطراف الجحيم النووي. وقد يكون محقاً فبوتين يعرف أنَّ عودتَه مهزوماً من أوكرانيا قد تؤدّي إلى تطاير لحم روسيا نفسِها كما تطاير لحم الاتحاد السوفياتي بعد عودة «الجيش الأحمر» خائباً من رحلته الأفغانية.

ثم إنَّ البندَ الوحيد لدى من يعد نفسه مفوّضاً من روح الأمة هو صورته في التاريخ. وتذكَّرت ما قاله لي أحدُ رفاق صدام حسين من أنَّ عدمَ انسحابه من الكويت يتعلّق أيضاً بصورته أمام التاريخ فضلاً عن صورته أمام رفاقه في بغداد. لا شك أنَّ غزو أوكرانيا مختلف عن غزو الكويت، وصاحب القرار هنا مختلف عن صاحب القرار هناك، لكن التجارب تقول إنَّ «القائد التاريخي» يسقط أحياناً أسير صورته.

تساءل الرجل عن السَّبب الذي يدفع الغرب إلى رفض التعايش مع انقلاب بوتين في حين تعايش مع الانقلاب الذي نفذته إيران. قال إنَّ الانقلاب الإيراني غيَّر ملامح 4 خرائط وموازين القوى فيها، وأعطى طهران حق تنصيب الرؤساء، وتشكيل الحكومات وإطلاق الصواريخ. لاحظ مستغرباً أنَّ أميركا تتبادل ضرباتٍ مدروسةً مع الميليشيا الحوثية التي «وصل بها الأمر حد إعطاء الصين وروسيا إذن مرور آمن لسفنهما في البحر الأحمر». قبل عقود تعامل شاه إيران مع حدود بلاده الحالية كثوب ضيق على تاريخها الإمبراطوري. ثورة الخميني التي أطاحته جعلت «تصدير الثورة» بنداً رئيسياً في دستورها.

إسطنبول لا تعيش بمنأى عن جروح التاريخ. عَدَّ رجب طيب إردوغان حدود تركيا الحالية ثوباً ضيقاً حشرت فيه الروح العثمانية؛ لهذا حاول استقطاب بعض أيتام الاتحاد السوفياتي خصوصاً من ينطق منهم بالتركية. حاول أيضاً تغيير ملامح دول أساسية في المنطقة حين هبَّت عاصفة «الربيع العربي». لتركيا تاريخ طويل من الحروب مع الإمبراطوريتين الفارسية والروسية. وها هي تركيا تضع الأسس لـ«حزام أمني» داخل العراق وحزام آخر داخل أراضي سوريا، بينما ينكر الغرب حق روسيا في إقامة حزامها على الأراضي الأوكرانية. طبعاً مع الالتفات إلى الفوارق بين حزام لا يستعيد أرضاً وحزام يستعيدها.

الصين أيضاً مصابة بجروح التاريخ. كلامُها قاطعٌ. لن تتعايشَ إلى الأبد مع غربة تايوان، ويكاد صبرُها ينفد. من حسن حظ العالم أنَّ شي جينبينغ يراهن على حليف اسمه الوقت، ولم يبادر إلى تصحيح الحدود بانقلاب على غرار ما فعل بوتين.

فوضى الإمبراطوريات مخيفة في الغابة الدولية الحالية. لم يعد الغرب قادراً على إدارة العالم. غابَ الشرطيُّ، واستيقظتِ الإمبراطوريات المجروحة. مجلسُ الأمن معطلٌ، ودموعُ غوتيريش لا تبلسم جروحَ غزة أو أوكرانيا.

العالم موعودٌ بما هو أخطر... الهجوم الإرهابي في موسكو خطرٌ ومثيرٌ بمسرحه وأهدافه وتوقيته. سلوكُ منفذيه لا يشبه سلوكَ محاربي «داعش» ومصائرهم. ربما لن تتَّضحَ كلُّ الخيوط إذا اختلطت الاعترافات ببراعات الاستخبارات. سيشكل منعطفاً إذا صحت نظرية «الخيط الأوكراني»، وإنَّ من خارج الحكومة. وسيفتح الباب أمام تصعيد هائل في الحرب الأوكرانية.

هل يستطيع الغرب احتمال نجاح الانقلاب الروسي؟ هل تستطيع أوروبا تجرُّعَ هذا القدر من السُّم؟ وماذا عن روسيا وسيد الكرملين إذا قرَّر الغربُ تمديدَ الحرب الأوكرانية لتقليم أظافر الإمبراطورية الجديدة وقيصرها؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين تثأر الإمبراطوريات المجروحة حين تثأر الإمبراطوريات المجروحة



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 23:15 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل تتسلم رفات رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر
المغرب اليوم - إسرائيل تتسلم رفات رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر

GMT 13:39 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر
المغرب اليوم - حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر

GMT 18:50 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

أروى جودة تتعرض لموقف محرج في «الجونة»

GMT 21:59 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"كيا" تطلق سيارة كهربائية متطورة قريبا

GMT 02:14 2019 الجمعة ,18 كانون الثاني / يناير

برج "برواز دبي" يَجذب مليون زائر في عام واحد

GMT 21:28 2018 الثلاثاء ,25 أيلول / سبتمبر

سفير المغرب في هولندا يكرم البطل التجارتي

GMT 02:30 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

"50 فكرة عن" الاقتصاد" كتاب حول النظم الاقتصادية

GMT 02:02 2018 الخميس ,22 آذار/ مارس

عمرو عمارة يبيّن أسباب تسوس الأسنان

GMT 15:25 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

الفنادق الأكثر جاذبية في العالم خلال عام 2018

GMT 18:10 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

لعبة "أسياد الشرق" صراعات ملحميّة تحاكي صراع الجبابرة

GMT 22:51 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء يرغب في استقبال الدفاع الجديدي في ملعب العبدي

GMT 04:26 2016 الخميس ,25 شباط / فبراير

حرق سعرات حرارية دون بذل مجهود

GMT 21:07 2015 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

ميرفت أمين بين نجوم فيلم "هتقتل تسعة"

GMT 03:10 2017 الأربعاء ,04 كانون الثاني / يناير

منتجع جزيرة ميليدهو ملاذ زوار المالديف في فصل الشتاء

GMT 05:56 2015 الأربعاء ,23 أيلول / سبتمبر

أبطال مسلسل "البيوت أسرار" يكملون تصوير مشاهدهم

GMT 09:29 2016 الجمعة ,07 تشرين الأول / أكتوبر

عطور نسائية تجذب الرجال وتزيد من دفء العلاقة الحميمة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib