درس قبرصيّ للبنانيّين

درس قبرصيّ للبنانيّين!

المغرب اليوم -

درس قبرصيّ للبنانيّين

حازم صاغية
حازم صاغية

الـ 200 كيلومتر التي تفصل بين ساحلي لبنان وقبرص لم تعد مسافة. إنّها نظام في تراتُب البلدان وفي القرارات التي تصنع مصائرها.لنتخيّل للحظة قبضةً من الشبّان القبارصة اليونانيّين قرّروا أن يتصرّفوا كما يتصرّف بعض الشبّان اللبنانيّين، أو ما يقولون إنّهم يفعلونه: أن يحرّروا جزيرتهم ويعيدوا توحيدها. هذه المهمّة تستدعي بالضرورة إجلاء القوّات التركيّة من شمال الجزيرة الشرقيّ وإلحاق الهزيمة بجيش المتطوّعين من القبارصة الأتراك وعددهم 9 آلاف.

عملٌ كهذا قد يعتبره كثيرون مطلباً شرعيّاً جدّاً، وهو قابل لأن يُرى كذلك. فالبلاد بلادهم وقد ترافقت تجزئتها مع الغزو التركيّ في أواسط السبعينات. بالتالي، يغدو مطلوباً ومقبولاً تشكيل هؤلاء الشبّان جبهةً للمقاومة الوطنيّة تشنّ عمليّات عسكريّة وتمضي فيها حتّى التحرير الكامل لكامل التراب القبرصيّ.

الشروط السياسيّة التي قد تلائم وضعاً كهذا ليست قليلة: داخليّاً، المؤيّدون من القبارصة الأتراك لإعادة توحيد الجزيرة ليسوا قلّة، وإن كان المعارضون كثيرين أيضاً. خارجيّاً، تركيّا هي البلد الوحيد الذي يعترف بجمهوريّة الشمال التي أعلنت الاستقلال من طرف واحد عام 1983. باقي العالم يعتبر تلك الجمهوريّة غير شرعيّة، ودولٌ كثيرة تقاطعها، ولا تتاجر مع مطاراتها ومرافئها التي انتهى بها الحال إلى الإقفال. فوق هذا فالأوضاع الاقتصاديّة المتردّية لتركيّا ولعملتها تقلّل قدرة أنقرة على إنجاد الشمال القبرصيّ الذي يحتاج الإنجاد.
مع ذلك كلّه، لا نعثر في قبرص اليونانيّة على مثل هؤلاء الشبّان. لا نعثر على جبهة تتعهّد تحرير باقي الوطن وتعلن أنّها ستعبّد الطريق بالدماء والشهداء.

هذا مع العلم أنّنا لا نتحدّث هنا عن مزارع شبعا قبرصيّة، إذ يشكّل الشمال أكثر من ربع المساحة الإجماليّة للجزيرة وربع سكّانها. وطبعاً لا نتحدّث عن فلسطين بالقياس إلى لبنان، إذ القبرصان جزءان من بلد واحد عاش على هذا النحو حتّى قيام التقسيم.

أغلب الظنّ أنّ أسباباً متعدّدة تمنع قيام جبهة تحرير كتلك، وتحول دون ظهور مُقلّدين قبارصة للنموذج اللبنانيّ. تلك الأسباب هي عوامل يمكن وضعها في مواجهة مفاهيم الوطنيّة النضاليّة القديمة:

فأوّلاً، القبارصة اليونان يكرهون الحرب. لا يغنّون لها ولا يكتبون لها القصائد، ولا يربّون أبناءهم على أن يكونوا شهداء الغد. كرهُ الحرب هو الذي يحميهم من أنفسهم وممّا قد يكون أمّاراً بالسوء. كره الحرب هو ما يحول دون تدمير القبرصين، اليونانيّة والتركيّة، بضربة واحدة. إنّهم، في أغلب الظنّ، يفضّلون ازدهار بلدهم وتطوير ديمقراطيّته ويتمتّعون بالثمار التي تدرّها عليهم عضويّتهم في الاتّحاد الأوروبيّ. هذا الهمّ يغلب عندهم همّ المقاومة والتحرير والتوحيد.

وهم، ثانياً، يتعايشون مع واقع التجزئة السلميّ، ما دام أنّ حربهم باتت من الماضي. إنّهم يفضّلون التجزئة المصحوبة بالسلم والاستقرار على تحرير قابل لأن ينقلب احتراباً أهليّاً مفتوحاً. هم، بالطبع، لم يتخلّوا عن وحدة الجزيرة من حيث المبدأ، لكنّهم، في أغلب الظنّ، رهنوا التنفيذ بتحوّلات في الرأي العامّ أو في توازنات القوى... إذا حدث مثل ذلك كان به. إذا لم يحدث مضينا في توطيد الجزء المحرّر سياسيّاً واقتصاديّاً. المهمّ تجنّب العنف والقتال.
هذا التوجّه واضح في أحزابهم، إذ لا يوجد، بين الأحزاب القويّة، حزب يقيم شرعيّته على التحرير والمقاومة. أقواها، «التجمّع الديمقراطيّ»، أيّد في 2004 خطّة الأمم المتّحدة التي عُرفت بـ«خطّة كوفي عنان» لإعادة توحيد الجزيرة. هذه حدودها. قيادة الحزب تعمل على ضبط الأصوات الأكثر تشدّداً فيه. الحزب الثاني، «الحزب التقدّميّ للشعب العامل – أكيل»، الشيوعيّ سابقاً، يؤيّد حلاًّ فيدراليّاً، ويمنح أولويّته للتقارب مع القبارصة الأتراك. الحزب الثالث، «الحزب الديمقراطيّ»، متشدّد سياسيّاً، لكنّ حماسته لأوروبيّته ولعضويّته في «الاتّحاد الأوروبيّ» تضبطان تشدّده. «الجبهة الديمقراطيّة» هي الحزب الرابع الذي انشقّ عن «الحزب الديمقراطيّ» لأنّه أقلّ تشدّداً منه. الحزب الخامس هو «الجبهة الوطنيّة الشعبيّة»: حزب فاشيّ يترجم فاشيّته عداءً للأتراك وللقبارصة الأتراك لكنْ من دون مقاومة. إنّه لا يحرز سوى 4 نوّاب من أصل 56.

وأخيراً، ما في طرف خارجيّ يحضّ القبارصة اليونان على أن يقاتلوا ويحرّروا بلدهم. اليونان لا تفعل هذا، والاتّحاد الأوروبيّ كذلك. إنّهم لا يتمنّون للقبارصة أن يموتوا ولقبرص أن تفنى. الحكمة المعتمَدة هي أنّ التغيير يحصل عبر الضغوط والمقاطعات والإجراءات السياسيّة والاقتصاديّة. ما يحصل عبر القتال هو التدمير فحسب.

موقف القبارصة اليونان لا ينمّ عن ضعف. نتذكّر أنّ الصين الهائلة الحجم والسكّان والإمكانات امتنعت منذ 1949، ولا تزال تمتنع، عن «تحرير» تايوان. لقد امتنعت أيضاً عن ضمّ هونغ كونغ إليها إلى أن تحقّقَ ذلك سلماً وبالاتّفاق مع بريطانيا الملتزمة أصلاً بتسليمها إلى البرّ الصينيّ.

مقابل هذا النموذج الصينيّ هناك النموذج اللبنانيّ (!) الذي لا بدّ أنّه يزيد في تنفير القبارصة من المقاومات والتحرير. إذا كانت «نهاية زمن الهزائم» قد أنهت معها كلّ شيء آخر فلنجرّب الهزائم إذاً. لعلّ وعسى.

في المقابل، لبنان المقاوم والمسلّح والمُفقَر والمعتِم لم تعد أكثريّة أبنائه ترى مثالاتها في بلدان أبعد وأغنى وأشدّ تقدّماً. هذا بات يبدو حلماً مستحيل التحقّق. رجاؤهم أن يصبحوا مثل تلك الجزيرة الجارة. بعضهم يفكّر بالانتقال إليها فيما يأخذ الانتقال شكل الفرار. نعم، إنّها مقسّمة وغير مسلّحة و«مستسلمة»، لكنّها تعيش وتتقدّم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

درس قبرصيّ للبنانيّين درس قبرصيّ للبنانيّين



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 22:22 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

ميسي يتصدر قائمة أعلى اللاعبين أجراً في الدوري الأميركي
المغرب اليوم - ميسي يتصدر قائمة أعلى اللاعبين أجراً في الدوري الأميركي

GMT 13:39 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر
المغرب اليوم - حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر

GMT 18:50 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

أروى جودة تتعرض لموقف محرج في «الجونة»

GMT 21:59 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"كيا" تطلق سيارة كهربائية متطورة قريبا

GMT 02:14 2019 الجمعة ,18 كانون الثاني / يناير

برج "برواز دبي" يَجذب مليون زائر في عام واحد

GMT 21:28 2018 الثلاثاء ,25 أيلول / سبتمبر

سفير المغرب في هولندا يكرم البطل التجارتي

GMT 02:30 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

"50 فكرة عن" الاقتصاد" كتاب حول النظم الاقتصادية

GMT 02:02 2018 الخميس ,22 آذار/ مارس

عمرو عمارة يبيّن أسباب تسوس الأسنان

GMT 15:25 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

الفنادق الأكثر جاذبية في العالم خلال عام 2018

GMT 18:10 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

لعبة "أسياد الشرق" صراعات ملحميّة تحاكي صراع الجبابرة

GMT 22:51 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء يرغب في استقبال الدفاع الجديدي في ملعب العبدي

GMT 04:26 2016 الخميس ,25 شباط / فبراير

حرق سعرات حرارية دون بذل مجهود
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib