داود وجالوت

داود وجالوت

المغرب اليوم -

داود وجالوت

بقلم - لمرابط مبارك

أنا من الذين ولدوا وترعرعوا في تلك الفترة التي كانت فيها القدس حاضرة في كل مكان، وكنت أستنشقها – ولعل هذا كان حال كثيرين مثلي- كما استنشق الهواء.. كانت صورة تلك القبة اللامعة والمزخرفة في كل مكان.. وكانت كلمة “القدس” برنتها الحادة في الأذن تتردد الأغاني وفي الأناشيد الحماسية، لدرجة كنت أعتقد في طفولتي أنها لا توجد على خارطة الجغرافيا، بل هناك في مكان ما من السماء.. هناك بين تلك النجمات الصغيرة التي تطل علينا لما يكون الجو صافيا.
ثم انتبهت أن هذه القدس ليست فقط، نجما في السماء، بل لها، كذلك، وجود على الأرض، وبها بنايات حجرية مثيرة ويقنطها أناس كثيرون، ويتعرضون للاضطهاد من طرف عساكر بخوذات وأحذية ضخمة، وأسلحة رشاشة على الأكتاف. ثم عرفت أن المدينة ساحة معركة بين سرديتين: الأولى تغرف حججها من كهف الأسطورة لتبرر ما تعتبره عودة إلى “الأرض الموعودة” وتنفي وجود أي شعب آخر عليها، والثانية تقوم على حضور ثابت غير منقطع منذ قرون وقرون وقرون.. حضور أقام حضارة كبيرة ساهمت بشكل كبير في مسار التاريخ الإنساني.
السردية الأولى تخلط الدين بالأسطورة وبالتاريخ وتسلح أصحابها بقوة الإعلام واللوبيات لتسويقها، ونجحوا إلى حد كبير في جعل كثيرين يثقون بـ”صواب” موقفهم، بل أفلحوا حتى في إقناعهم بأنهم الضحية وإن كانوا على أرض الواقع هم الجلاد.
السردية الثانية، لم يفلح أًصحابها قط في الدفاع عنها كما يجب بالذكاء المطلوب، واكتفوا في كثير من الأحيان بالشعارات، ولم ينجحوا حتى في إقناع جزء مهم بوضعهم الحقيقي كضحية عزلاء وحيدة أمام جلاد مدجج بالسلاح الناري والإعلامي والدبلوماسي. بل إن القدس تحولت لدى قادتهم إلى مشجب يعلقون عليه استبدادهم، وتنكيلهم بشعوبهم كلما طالبوا بكوة ضو.
هي ذي، في تقديري وباختصار شديد، قدس الخمسين سنة الأخيرة.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من القادة الذين يتبنون – عن علم أو عن جهل لا يهم- السردية الأولى، التي تقوم على الأسطورة وتحول الجلاد إلى ضحية. واعترافه بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” يبدو له نتيجة طبيعية لما يتبناه. طبعا بقراره يكون قد أشعل فتيل اضطرابات لا أحد يعلم مآلها، وستتواصل لأمد طويل بعد مغادرته البيت الأبيض وحتى الحياة برمتها.
بقراره يكون ترامب، في تقديري، قد جمع أمرين يصعب- أو ربما يستحيل- الجمع بينهما. إذ أنزل القدس من سمائها وحولها إلى مجرد تجمع مبتذل من البشر والعقارات يمكن بجرة قلم تحديد مصيرها. وفي الوقت ذاته صعد بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي من مواجهة بين محتل وخاضع للاحتلال على جغرافيا معلومة، إلى حرب سماوية.. إلى حرب دينية صريحة قد لا تنتهي أبدا.
لا شك أن ما أقدم عليه ترامب سيتسبب في هدر الكثير من الدماء، ولكنه خيرا فعل. لأنه بقراره هذا سيزيد من كشف ضعف وخواء كل هؤلاء الذين لا يكفون عن الحديث، والحديث فقط، عن القضية الفلسطينية.
نعم، خيرا فعل لأنه يزيد من كشف عورات كل أولئك – من فلسطينيين وغيرهم- الذين حوّلوا القضية الفلسطينية إلى “أصل تجاري” منذ سنين وسنين.
نعم، خيرا فعل، لأنه يؤكد لملايين الفلسطينيين في القدس والخليل ورام الله وبيت لحم وجنين وغزة وغيرها، أنهم وحيدون مثل نخلة في صحراء قاحلة.. وحيدون مثل داود أمام جالوت.. وحيدون لا مقلاع لديهم ولا سلاح سوى ما يختزنه الصدر من إصرار على البقاء وترسيخ الأقدام في طين الجغرافيا، والإمساك بزمام هذا التاريخ الجامح الذي يكتبه الأقوياء.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

داود وجالوت داود وجالوت



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 23:15 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل تتسلم رفات رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر
المغرب اليوم - إسرائيل تتسلم رفات رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر

GMT 13:39 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر
المغرب اليوم - حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر

GMT 18:50 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

أروى جودة تتعرض لموقف محرج في «الجونة»

GMT 21:59 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"كيا" تطلق سيارة كهربائية متطورة قريبا

GMT 02:14 2019 الجمعة ,18 كانون الثاني / يناير

برج "برواز دبي" يَجذب مليون زائر في عام واحد

GMT 21:28 2018 الثلاثاء ,25 أيلول / سبتمبر

سفير المغرب في هولندا يكرم البطل التجارتي

GMT 02:30 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

"50 فكرة عن" الاقتصاد" كتاب حول النظم الاقتصادية

GMT 02:02 2018 الخميس ,22 آذار/ مارس

عمرو عمارة يبيّن أسباب تسوس الأسنان

GMT 15:25 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

الفنادق الأكثر جاذبية في العالم خلال عام 2018

GMT 18:10 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

لعبة "أسياد الشرق" صراعات ملحميّة تحاكي صراع الجبابرة

GMT 22:51 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء يرغب في استقبال الدفاع الجديدي في ملعب العبدي

GMT 04:26 2016 الخميس ,25 شباط / فبراير

حرق سعرات حرارية دون بذل مجهود

GMT 21:07 2015 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

ميرفت أمين بين نجوم فيلم "هتقتل تسعة"

GMT 03:10 2017 الأربعاء ,04 كانون الثاني / يناير

منتجع جزيرة ميليدهو ملاذ زوار المالديف في فصل الشتاء

GMT 05:56 2015 الأربعاء ,23 أيلول / سبتمبر

أبطال مسلسل "البيوت أسرار" يكملون تصوير مشاهدهم

GMT 09:29 2016 الجمعة ,07 تشرين الأول / أكتوبر

عطور نسائية تجذب الرجال وتزيد من دفء العلاقة الحميمة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib