المتحف كـ«مكان جريمة» كولونيالية

المتحف كـ«مكان جريمة» كولونيالية

المغرب اليوم -

المتحف كـ«مكان جريمة» كولونيالية

لحسن حداد
بقلم : لحسن حداد

مفارقةُ متاحفِ الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري أنَّها ليست فضاءاتٍ محايدة، بل تُشكّل دليلاً مادياً على العنف الكولونيالي الذي مارسته القوى الاستعماريةُ لعقودٍ وقرون في دول الجنوب؛ حيث استُخرجت الخيرات من باطن الأرض، واقتُلعت الرموز والمنتجات الثقافية من جذورها، أو ما سُمّي لاحقاً «العيّنات العلمية»، لعرضها في الغرب. وهو ما يدلّ على أنَّ المتاحف هي فعلاً «مشاهد لجرائم تاريخية»، كما تشير إلى ذلك سوزان تالمان في مقالٍ، نُشر في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» (عدد ديسمبر/ كانون الأول 2025).

فالمتاحف، وفقاً لتالمان، ومن خلال طريقة العرض من وراء الزجاج، أو السرديات المصاحبة للمعروضات الثقافية، أو تنظيم الفضاء الداخلي، تنخرط في إعادة إنتاج قراءة مُحدَّدة للتاريخ؛ فهي تُقدّم نفسها كفضاء عرضٍ موضوعيٍّ وكونيٍّ للثقافات، لكنَّها في جوهرها تُخفي علاقات السلطة والعنف الكولونيالي اللذين كانا وراء تجميع هذه «الأشياء» في الأصل.

وراء التنميطات الجميلة والعرض الاستيتيقي «المحايد» تكمن قصص تُظهر كيف أنَّ مجتمعاتٍ أصيلة في أفريقيا وأميركا وآسيا لم تعانِ فقط من العنف المادي الاستعماري، بل أيضاً من عنفٍ ثقافيّ تمثّل في تجريدها من أدواتها التعبيرية، وعرض تلك الأدوات في مدن المتروبول الأوروبية بوصفها شواهدَ على «ثقافة الآخر»؛ بعراقته، وفطرته الفنية، و«بدائيته» الميثولوجية.

لم يكن الفعل الكولونيالي مقتصراً على استغلال الثروات وترحيلها إلى الغرب، بل مثَّل أيضاً عنفاً ثقافياً تمثَّل في اقتلاع الأصول الثقافية من بيئاتها، وعرضها في الغرب وكأنَّها دليلٌ بريءٌ ومحايد على ثقافة «الآخر»، من دون الإشارة إلى العنف الرمزي والمادي الذي كان وراء نقلها، وتنحيفها، وتحويلها إلى «تحفٍ صامتةٍ بريئة». فالمتحف الغربي هو، إذن، فعلٌ «ثقافيّ» يُخفي مسار الجريمة ويطمس بداياتها. وهكذا تمارس المتاحف عنفاً مركباً: جريمة اقتلاع التراث من بيئته الأصلية، وجريمة طمس التاريخ العنيف لعملية «الاقتناء».

لقد أصبحَ «منتدى هومبولت» في برلين - بما يضمه من متحفٍ للإثنولوجيا - موضوعَ نقاشٍ حادّ داخل الأوساط الثقافية الألمانية، ممّا وضعه في قلب الجدل حول كيفية تدبير «الغنائم الثقافية» لأوروبا الكولونيالية. وترى تالمان أنَّ أزمة المتاحف اليوم هي أزمة بنيوية منظومية، وليست محلية تخص منتدى هومبولت وحده؛ فهذا الأخير يقدّم نفسه كفضاءٍ مُنحازٍ لـ«الإنسية الكونية»، لكنه يحاول، بشكلٍ يائس، طمسَ التاريخ الكولونيالي الألماني، والعنف الماديّ والثقافيّ الذي رافقه.

تستشهد تالمان بأعمال بينيديكت سافوا وغوتس آلي اللذين فتحا النقاش، خلال السنوات الأخيرة، حول «مكان الجريمة المتحفي» والعنف الاستعماري. فقد انتقدت سافوا ما سمّته «العمى المتعمَّد» للمتاحف الأوروبية تجاه مصادر وطريقة جمع كثيرٍ من معروضاتها؛ إذ بنت هذه المتاحف مكانتها على نهبٍ كولونياليّ قوامه السيطرةُ وسرقةُ تحفِ الشعوب المستعمَرة وتعبيراتها المادية. لذلك تدعو سافوا - في أبحاثها، ومنها مقال «ما لا تخبرك به متاحفنا» لوموند الدبلوماسي بالألمانية، 2017) وكتابها «نضال أفريقيا من أجل تراثها الفني» (2021) - إلى شفافيةٍ مطلقة تشمل البحث في المصادر، والاعتراف القانوني بما وقع من حيفٍ كولونيالي، وإرجاع الكنوز الثقافية، وإعادة صياغة السرديات بالتعاون مع دول المنشأ.

أمّا غوتس آلي، فقد أبرز في كتابه بالألمانية «السفينة العجيبة» (2021) كيف أنّ جمع التحف «الإثنوغرافية» في ناميبيا وتنزانيا وغيرهما رافقته عملياتُ قتلٍ وتهجيرٍ وتمسُّحٍ قسري وتدميرُ مجتمعاتٍ بأكملها. لذلك فإنَّ نقده لمنتدى هومبولت وادّعاءاته «الإنسية» يُظهر أنَّ الإرث الكولونيالي ليس مجرّد ماضٍ، بل حاضرٌ مستمرّ ينظّم علاقاتِ السلطة داخل المتاحف الأوروبية. وهو يتحدّى أوروبا بأن تعترف بالاستمرارية بين العنف الاستعماري، وذلك التراثِ الذي يُعرَض اليوم بعد تنقيته وتبييضه.

إنَّ النقاشَ الألمانيَّ الراهن يضع المجتمعاتِ الأوروبية أمام لحظةِ حقيقةٍ تاريخية: كيفيّةِ جبرِ الضررِ الاستعماري، والعنفِ الماديّ والثقافيّ، وعملياتِ النهبِ والسلبِ، عبرَ تعبئةِ المؤرخين والنقّاد والمفكرين وأصواتِ الشتاتِ الأفريقيّ لمساءلةِ الذاكرة. غير أنَّ هذا النقاش يُحدث توتّراً بين الحاجة إلى الاعتراف والإرجاع، من جهة، والخوفِ من خلقِ سوابقَ قانونيةٍ دوليةٍ، من جهةٍ أخرى.

ويبقى السؤال الجوهري: من يروي السردياتِ المصاحِبةَ لتحفِ دولِ الجنوبِ المعروضةِ في المتاحف الأوروبية؟ لا يمكن للمتاحف وحدها أن تستمرّ في ذلك، بل يجب تأسيس مقاربةٍ ما بعد كولونياليةٍ تشاركية، تتقاسم فيها الأطرافُ المعنيّة — دولُ المنشأ والمتاحفُ الأوروبية — إعادةَ كتابةِ تاريخِ تلك التحف، والعنفِ الذي رافق جمعَها، وشروطِ إرجاعها وإمكاناتِه، مع تصوّر صيغٍ للعرض المشترك. إنّ كتابةَ هذا التاريخ يجب أن تكون عملاً نقدياً مشتركاً، مبنياً على الحقائق لا على طمسِها من أجل «إنسيةٍ كونية» مُصطنَعة ومحايدة. عندها فقط يمكن أن يتحوّل المتحف إلى فضاءٍ لجبرِ الضرر، بدلاً من إخفائه تحت شعاراتِ الحيادِ والكونية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المتحف كـ«مكان جريمة» كولونيالية المتحف كـ«مكان جريمة» كولونيالية



GMT 16:26 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

صحافة الابتزاز

GMT 16:22 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

الإخوان وكتلة الإصلاح.. خطاب المتناقضات !

GMT 16:22 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

موازنة تقليدية وخطابات إعلامية

GMT 16:20 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

2025... سنة مغربيّة بامتياز

GMT 16:19 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

اللّبنانيّون يرفضون الانتحار… مع “الحزب”!

GMT 16:18 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

المانحون الكبار وضحاياهم

GMT 16:16 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

فيلم «السِّتّ» إبداعٌ وإضافة

GMT 16:13 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ترمب: لا تحبسوني

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت - المغرب اليوم

GMT 18:44 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يُطلق مرحلة جديدة من العقوبات ضد فنزويلا
المغرب اليوم - ترامب يُطلق مرحلة جديدة من العقوبات ضد فنزويلا

GMT 02:59 2025 السبت ,13 كانون الأول / ديسمبر

أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
المغرب اليوم - أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن

GMT 03:27 2025 السبت ,13 كانون الأول / ديسمبر

واشنطن تخطط لنشر قوات دولية في غزة مطلع العام المقبل
المغرب اليوم - واشنطن تخطط لنشر قوات دولية في غزة مطلع العام المقبل

GMT 10:42 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

نيللي كريم تفرض حضورها السينمائى في المهرجانات بـ 3 أفلام
المغرب اليوم - نيللي كريم تفرض حضورها السينمائى في المهرجانات بـ 3 أفلام

GMT 19:41 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ماريا كورينا ماتشادو تؤكد رحيل مادورو بالتفاوض أو بدونه
المغرب اليوم - ماريا كورينا ماتشادو تؤكد رحيل مادورو بالتفاوض أو بدونه

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 17:23 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

يحمل إليك هذا اليوم كمّاً من النقاشات الجيدة

GMT 17:54 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 08:07 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الميزان الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 07:26 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

تطوير برنامج جديد للتسوق العشوائي عبر شبكة الانترنت

GMT 17:42 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 06:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

سولاري يُؤكّد مُقاتلة الريال على لقب الدوري الإسباني

GMT 21:34 2021 الأحد ,24 تشرين الأول / أكتوبر

أرباب محطات الوقود يشتكون الزيادة في أسعار المحروقات

GMT 03:12 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

الكشف عن موعد إفتتاح قناة "إم بي سي المغرب"

GMT 17:16 2019 السبت ,16 شباط / فبراير

غوارديولا يعتذر للجزائري رياض محرز

GMT 06:05 2019 الخميس ,03 كانون الثاني / يناير

نصائح تساعد في التخلص من حرج الحميات الغذائية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib