سيارات لندن

سيارات لندن..!

المغرب اليوم -

سيارات لندن

عبدالله الدامون

عندما ظهرت أول سيارة في لندن قطعت أربعين كيلومترا في ساعة كاملة. الناس يضحكون الآن من هذا الرقم المخجل لسيارة كانت تسير بما يشبه سرعة الإنسان، فاليوم توجد سيارات تقطع مسافة خرافية في زمن قياسي. لكن هناك الوجه الآخر للتطور. فاليوم، وفي لندن نفسها، تقطع سيارة حديثة ومتطورة مسافة أربعين كيلومترا في ساعة كاملة، ليس لأن محركها عاد أكثر من مائة عام إلى الوراء، بل فقط لأن الازدحام في قلب لندن يجعل الحركة مستحيلة. هكذا عاد الإنسان عقودا طويلة إلى الوراء وصار أبطأ مما كان قبل مائة عام.
نفس ما يحدث في لندن يحدث في أماكن كثيرة في العالم، فالسيارة في قلب نيويورك أو شانغهاي أو سيدني أو الدار البيضاء يحدث لها نفس الشيء، فالازدحام الكبير جعل التطور التكنولوجي مجرد صفر على الشمال.لكن شلل التطور لم يشمل السيارات فقط، بل شمل الكثير من مناحي الحياة، ومن أبرز هذه المناحي شبكة الأنترنيت، التي اعتقدناها تطورا هائلا وانقلابا في حياة البشرية، لكن الحقيقة أن الأنترنيت صار مثل جلباب فضفاض يعيش تحته الجميع، الأكثر تطورا مع الأكثر تخلفا، العباقرة والأميون، النوابغ والجهلة، الأبرياء والقتلة.
في زمن ما قبل الأنترنيت نتذكر تلك الرسائل الطريفة والمحيرة التي كانت تصلنا عبر ساعي البريد ولا نعرف من أرسلها بالضبط، لكننا نجد بداخلها سطورا بخطوط رديئة ومقززة تتكلم عن رسالة مزعومة للمدعو الشيخ أحمد الذي يدعي أنه رأى الرسول عند الكعبة وكلفه بإيصال رسالة مؤثرة إلى أمة الإسلام. الرسالة كانت تحمل طابع الترغيب والترهيب، فمن كتب منها أربعين أو خمسين نسخة وفرقها على غيره فسيلاقي النعيم في حياته قبل مماته، ومن أعرض عن ذلك فستلاحقه اللعنات والمصائب في الحياة قبل الممات. عندما ظهر الأنترنيت دخلت رسالة الشيخ أحمد عصر التكنولوجيا وصار كثيرون يرسلونها إلى الآخرين بنفس التهديد والوعيد، صحيح أن التكنولوجيا سهلت مهامهم، لكنهم ظلوا يعيشون في التخلف نفسه.
وفي العقود الماضية كانت الخرافات تنتقل من فم إلى أذن، ومن رأس إلى رأس، وكل واحد يزيد فيها ما يراه مناسبا حتى تتحول الخرافة إلى أسطورة. ويتذكر كثير من المغاربة تلك الحكايات العجيبة التي تنتشر بين الناس في مختلف المدن المغربية، مثل حكاية المرأة التي تسير تحت الشمس من دون ظل، أو ذلك الظل الذي يظهر تحت الشمس من دون صاحبه، أو تلك الشجرة التي كان عمال يقطعونها في الغابة فصرخت من الألم وسالت منها الدماء ومات العمال الذين أراقوا دمها، وعن تلك الغابة التي كُتبت الشهادة على أشجارها، حتى أن الكثير من التجار وأصحاب الحوانيت علقوا صورها فوق رؤوسهم كنوع من رسوخ الإيمان وثبات العقيدة. وعندما كانت قوة الخرافة ترتفع يتحدث الناس عن ظهور المهدي المنتظر والبغْلة التي ولدت ونطقت، وخرافات كثيرة أخرى.
مع مرور السنين توقع كثيرون أن التطور التكنولوجي سيقضي على الخرافة، تماما كما توقع من كانوا قبلنا أن السيارة ستحقق المعجزات، لكن الذي حدث هو أن الخرافة سكنت في قلب التطور، وها هو الأنترنيت يرزح اليوم تحت كم هائل من الخرافات، وها هو الفيسبوك، الذي كنا نظن أنه يشكل ثورة حقيقية في حياة الأفراد والمجتمعات، يتحول في كثير من جوانبه إلى مأوى للتخلف ومرتع للخرافة.
وقبل أيام انشغل الناس في مدن مغربية كثيرة بالصوت المخيف القادم من السماء، ولم يكتفوا بالحديث عنه، بل بثوه عبر أشرطة اليوتوب، فكان تارة يشبه صوت تيار كهربائي قوي، وتارة يشبه صوت منبهات سيارات قادمة من مفترق طريق بعيد، وأحيانا يشبه أصوات ديناصورات «حاصْلة» في قفص عملاق، وكل واحد ينفي أن يكون قد سمع شيئا ويقول إن الآخرين سمعوها، تماما مثل الشجرة الدامية أو البغْلة الناطقة التي رآها الآخرون فقط. في الماضي كنا نقول إن «المخزن» هو الذي يخترع الخرافات العجيبة ليشغل بها المغاربة عن المطالبة بالكرامة ولقمة العيش، مستغلا سذاجة الناس وأميتهم وجهلهم، وخوفهم أيضا.
اليوم يبدو أن المغاربة تعلموا وتثقفوا وطلقوا الجهل ولم يعودوا بنفس نسبة الأمية سابقا وصاروا مبدعين في التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أن المخزن المتهم بتبليد آبائهم وأجدادهم لا يزال هو نفسه يبلّدهم حاليا عبر الخرافات المتراكمة بين ثنايا أكثر التكنولوجيات تطورا.  عموما.. لسنا سوى نسخة من سيارات لندن.. تطورنا كثيرا ثم عدنا إلى سرعة السلحفاة.. !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سيارات لندن سيارات لندن



GMT 16:26 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

صحافة الابتزاز

GMT 16:22 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

الإخوان وكتلة الإصلاح.. خطاب المتناقضات !

GMT 16:22 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

موازنة تقليدية وخطابات إعلامية

GMT 16:20 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

2025... سنة مغربيّة بامتياز

GMT 16:19 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

اللّبنانيّون يرفضون الانتحار… مع “الحزب”!

GMT 16:18 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

المانحون الكبار وضحاياهم

GMT 16:16 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

فيلم «السِّتّ» إبداعٌ وإضافة

GMT 16:13 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ترمب: لا تحبسوني

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت - المغرب اليوم

GMT 18:44 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يُطلق مرحلة جديدة من العقوبات ضد فنزويلا
المغرب اليوم - ترامب يُطلق مرحلة جديدة من العقوبات ضد فنزويلا

GMT 02:59 1970 السبت ,13 كانون الأول / ديسمبر

أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
المغرب اليوم - أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 17:23 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

يحمل إليك هذا اليوم كمّاً من النقاشات الجيدة

GMT 17:54 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 08:07 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الميزان الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 07:26 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

تطوير برنامج جديد للتسوق العشوائي عبر شبكة الانترنت

GMT 17:42 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 06:06 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

سولاري يُؤكّد مُقاتلة الريال على لقب الدوري الإسباني

GMT 21:34 2021 الأحد ,24 تشرين الأول / أكتوبر

أرباب محطات الوقود يشتكون الزيادة في أسعار المحروقات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib