صناعة الكذب

صناعة الكذب

المغرب اليوم -

صناعة الكذب

بقلم : توفيق بو عشرين

هي صناعة قديمة تزدهر اليوم في العصر الرقمي، وتصبح ذات مفعول هائل حتى في الدول الديمقراطية والغنية والمتعلمة، والتي تتوفر شعوبها على درجة «محترمة» من الوعي. صناعة الكذب حازت جائزة كبيرة قبل ثلاثة أشهر عندما ساعدت في وصول رئيس أمريكي جديد إلى البيت الأبيض..  رئيس استعمل الكثير من هذه الأكاذيب لتسويق نفسه للمواطنين البيض الأقل تعلما، القاطنين بالقرى والبلدات الصغيرة، والذين كانوا مهيئين، بفعل الأزمة الاقتصادية وضعف التعليم وانتشار العولمة وانتعاش القوميات الجديدة، لتصديق هذه الأكاذيب.

نشرت أخيرا دراسةٌ أعدها  خبراء اقتصاديون في جامعة ستانفورد وجامعة نيويورك بعد مرور شهرين على الانتخابات الأمريكية، التي جرت في نونبر من السنة الماضية، وتوصلت هذه الدراسة إلى أنه في الفترة التي سبقت التصويت، حازت الأخبار الكاذبة، التي أطلقها ترامب وفريقه ضد المرشحة الديمقراطية  هيلاري كلينتون،   30 مليون مشاركة على موقع فيسبوك (30 مليون مواطن استهلكوا هذه الأخبار الزائفة واطلعوا عليها وشاركوها مع غيرهم). في المقابل، لم تحظ الأخبار الصحيحة عن هيلاري، سواء التي أطلقتها هي وفريقها أو كُتبت عنها، سوى بحوالي  8 ملايين مشاركة على الفايسبوك، ما يعني أن شعبية الأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي أقوى بثلاث مرات من الأخبار الصحيحة. يقول المثل: «الأخبار السيئة لا تحتاج إلى من ينقلها»، وإذا تصرفنا في هذا المثل يصبح على الشكل التالي: «الأخبار الكاذبة لا تحتاج إلى من ينقلها، فهي تنتشر كالنار في الهشيم».

الآن، لنسأل معدي هذه الدراسة العلمية، التي اتخذت من حملتي ترامب وهيلاري نماذج بحثية جرى الاشتغال عليها بطرق علمية خارج أي انحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، كم  عدد الأكاذيب التي وصلت إلى الأمريكيين؟  وكم صدق الجمهور منها؟ ودائما باعتماد وسائط التواصل الاجتماعي، التي تعطي بيانات ومؤشرات وأرقاما يمكن اعتمادها للخروج بخلاصات دقيقة، إلى حد بعيد، عن تفاعل الجمهور مع «الكذب المزوق».

وذكرت الدراسة أن كل مواطن أمريكي من تعداد السكان الذي يصل، حسب إحصائيات 2015، إلى 320 مليون نسمة،  رأى أو قرأ أو سمع  أو تذكر، على الأقل، خبرا كاذبا واحدا مؤيدا لترامب ومعاديا لهيلاري، فيما اطلع   0.23 في المائة على خبر زائف  معادٍ لترامب ومؤيد لكلينتون (الأخبار الكاذبة لترامب وصلت بقوة خمسة أضعاف إلى الجمهور أكثر مما وصلت الأخبار الكاذبة لكلينتون، وهذا راجع، من جهة، إلى أكثرة الأخبار الكاذبة لسمسار العقارات، مقارنة بمنافسته التي كذبت أقل، ويرجع، ثانيا، هذا الفرق  إلى نوعية الأخبار الكاذبة التي أطلقها ترامب،  وارتكازها على موضوعات حساسة عرقية أو جنسية أو دينية). الآن، لنسأل معدي الدراسة: كم هي نسبة تصديق الجهور لملايين الأخبار الكاذبة التي نزلت فوق رؤوسهم من منصة القصف السريع والقوي لمواقع التواصل الاجتماعي؟ إليكم المفاجأة: لقد  تعدت نسبة من صدقوا هذه الأخبار الزائفة النصف بقليل، فـ51% صدقوا الأخبار الكاذبة التي استهلكوها، وذلك اعتمادا على استطلاعات رأي واسعة قام بها فريق البحث معتمدا، من جهة، على تعليق الجمهور على هذه الأخبار الكاذبة، ومن جهة، على اقتسامها مع آخرين،  ومن جهة ثالثة،  على رأيهم المباشر حولها في مقابلات مباشرة. أكثر من هذا، اتضح، من خلال نتائج الدراسة، أن مفعول كل خبر كاذب أطلقه ترامب كان يوازي  مفعول 30 إعلانا انتخابيا، وهنا تتضح استراتيجية الكذب التي اعتمدها ترامب لأنها أقرب طريق إلى قلب الناخب وعقله، وهكذا فاز سمسار العقارات في نيويورك بالانتخابات الرئاسية  رغم وقوف سكان المدن الكبرى ضده، ووقوف المثقفين والفنانين والإعلاميين ومراكز البحث ومجمع وول ستريت في الجهة المقابلة له.

في ختام الدراسة، يقدم معدوها وصايا لجعل حبل الكذب السياسي قصيرا، مثل دفع إدارتي الفايسبوك وتويتر إلى محاربة انتشار المعلومات الزائفة على شبكتيهما دون فرض الرقابة على الجمهور (كيف؟ لا جواب)، وغرس ثقافة رقمية جديدة في عقل طفل العصر الرقمي، لأن الكبار لا أمل في تعلمهم، الآن على الأقل.

لن تتوقف شبكات التواصل الاجتماعي الهائلة عن لعب دور الإخبار ونشر المعلومات وتداول الأفكار، والقفز فوق ظهر الوسائط التقليدية للإعلام، التي خسرت المنافسة أمام الفاعل الرقمي الذي أدخل ملايين المواطنين إلى أكبر قاعتي تحرير في العالم موجودتين في الفايسبوك وتويتر، بدون تكوين ولا تأهيل ولا ميثاق تحرير، وها هي أولى النتائج  المدمرة لهذه الوسائط التي خرجت من التواصل بين الأفراد إلى الإخبار، ومن تبادل الصور إلى نشر المعلومات، بدون ثقافة التحري والتأكد من الأخبار، وعرض كل وجهات النظر، والابتعاد عن القذف والسب والعنصرية والتمييز، والتحريض على الكراهية، تماما مثل ما تفعل الصحافة الصفراء التي كانت تعيش على هامش المجتمعات الغربية، تقتات على الفضائح والأخبار المفبركة، فصارت اليوم موضة عالمية.

مع كل ذلك، فإن حبل الكذب سيظل قصيرا في العالم كله، حتى وإن استغله البعض للوصول إلى السلطة أو الثروة،  وسابقة ترامب اليوم في أمريكا ستشكل صدمة قوية للضمير الغربي، والأمريكي تحديدا، لكي يستيقظ، ليس فقط ليحمي المجال الإعلامي من الكذب الأسود، بل ليعمل كذلك على تحصين مكتسبات الحضارة المعاصرة، وحماية  الديمقراطية من الشعبوية، وأحكام الربط بين الديمقراطية، كآلية للوصول إلى الحكم، والليبرالية السياسية كمضمون لهذا الحكم… جريمة ترامب اليوم، ومن خلفه اليمين المتعصب في أوروبا، ومدرسة بوتين في روسيا، أن هؤلاء يفكون الارتباط بين الآلة الديمقراطية والروح الليبرالية.

المصدر: جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صناعة الكذب صناعة الكذب



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 21:29 2025 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء
المغرب اليوم - العاهل المغربي يدعو الرئيس الجزائري إلى حوار صادق وبناء

GMT 12:02 2025 السبت ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة كندية تكشف أن النساء أكثر عرضة لمضاعفات أمراض القلب
المغرب اليوم - دراسة كندية تكشف أن النساء أكثر عرضة لمضاعفات أمراض القلب

GMT 08:58 2025 السبت ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنانة شمس البارودي تكشف عن تفاصيل أزمتها الصحية
المغرب اليوم - الفنانة شمس البارودي تكشف عن تفاصيل أزمتها الصحية

GMT 17:25 2013 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"ماوس" تطفو اعتمادًا على دوائر مغناطيسية

GMT 09:48 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم "الشلال" يسعى إلى جذب زبائنه بشتى الطرق في الفليبين

GMT 23:15 2023 السبت ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سان جيرمان يكتسح ستراسبورغ بثلاثية في الدوري الفرنسي

GMT 08:04 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سلطنة عمان تحذر مواطنيها من خطورة السفر إلى لبنان

GMT 22:31 2023 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي مهدي بنعطية مرشح لمنصب مدير رياضي بفرنسا

GMT 08:16 2023 الأربعاء ,13 أيلول / سبتمبر

أبرز الأخطاء الشائعة في ديكورات غرف النوم الزوجيّة

GMT 16:04 2023 الإثنين ,11 أيلول / سبتمبر

150 قتيلا جراء الفيضانات والأمطار الغزيرة في ليبيا

GMT 13:24 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

''فريد غنام'' يطرح فيديو كليب ''الزين الزين''

GMT 20:55 2022 الخميس ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جوجل تطمح لتقديم خدماتها بألف لغة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib