لكل شعب السلطة التي يستحقها

لكل شعب السلطة التي يستحقها

المغرب اليوم -

لكل شعب السلطة التي يستحقها

بقلم - توفيق بو عشرين

لأسباب كثيرة يغيب نقد المجتمع في صحافتنا ويحضر نقد السلطة، وإن كانت السلطة مسؤولة عن جزء من أعطاب المجتمع، فهذا لا يعفي الجماعة من مسؤولية الإعاقات الكثيرة التي تخترق المجتمع، وتجعله يعيد إنتاج شقائه وتعاسته… من هذه الاختلالات التي تتكاثر في البيئة المغربية نجد أربعة على سبيل المثال لا الحصر.

أولا: أولوية الخاص على العام، أو «الله ينصر من أصبح»، أو «للي تزوج مي أناديه عمي»، وكلها عبارات تدل على «الأنانية» وعدم تحمل المسؤولية، والرضوخ للعبودية، وعدم التشبث بالحرية والإرادة، وقول الحقيقة. أحصى روني لوكلير Leclair في كتاب أصدره سنة 1905 ستين تاجرا فاسيا على رأس المفاصل الكبرى للحركة التجارية و«المالية» في المغرب في تلك الفترة.. ويشير المؤرخ عبد الأحد السبتي إلى أنه عندما دخل الجنرال اليوطي إلى مدينة فاس، اجتمع بأغلب هؤلاء التجار الستين، وطلب رأيهم في أحوال المملكة الشريفة، وتصورهم للمستقبل، ومهمة فرنسا في المغرب، والتي كانت تلطف الاستعمار والاستغلال والعبودية تحت اسم «الحماية»، التي سمي بها العقد الذي وقعه مولاي حفيظ سنة 1912. استمع التجار مليا إلى المارشال، ثم سألوه سؤالا سيظل تاريخيا: «هل ستمس فرنسا تجارتنا؟». كان جواب الداهية اليوطي: «بالطبع لا»، فكان رد التجار الفاسيين ممن حضروا الاجتماع: «الله يسخر».

ثانيا: الدين عندنا شكل قبل أن يكون جوهرا.. نص قبل أن يكون مقصدا.. طقوس قبل أن يكون معنى.. مظهر قبل أن يكون سلوكا يوميا… في الوقت الذي تزداد فيه مظاهر التدين في مجتمعنا، وتكثر المساجد، وترسل اللحى، وينتشر الحجاب، ويجتاح القاموس الديني اللغة اليومية للمواطنين، تزداد الجرائم ومظاهر الاختلالات العامة في السلوك اليومي، وفي الأخلاق العامة، وفي مظاهر التمدن وسط المدن والقرى… تجد المؤمن المغربي يؤدي كل فروض الصلاة في المسجد، لكنه لا يؤدي الضريبة للدولة.

تجد المؤمن المغربي يحرص على الذهاب للحج أكثر من مرة في حياته، لكنه لا يذهب ولو مرة في عمره إلى ملجأ أو خيرية لرعاية الأيتام. كنت قبل أيام في أمريكا، ولاحظت حجم العمل التطوعي الكبير وسط المواطنين لمساعدة ضحايا الأعاصير والفيضانات التي ضربت جنوب شرق البلاد. هناك قصص لا تصدق عن مواطنين خاطروا بحياتهم لإنقاذ مسنين من الفيضانات، وآخرين اقتسموا منازلهم مع المنكوبين، وتبرعات بملايين الدولارات خرجت من جيوب أفراد ومؤسسات للعمل الخيري والتطوعي… الذين يزرعون نمط التدين في نفوس المغاربة، للأسف الشديد، يفعلون ذلك بطريقة شكلية جافة، لا تصل إلى المعاني الكبرى للدين، الذي حث على إطعام الحيوان، وجعل امرأة تدخل النار في قطة لأنها حبستها، فما بالك بالإنسان.

فقهاء الوعظ المغربي مشغولون بثقافة الحلال والحرام، ومأخوذون بالقراءة الوهابية للدين التي أفقرت الإسلام من معانيه الإنسانية، لأن ما يهم السلفي الوهابي هو ضمان ولاء المؤمنين لولي الأمر وتسليم السلطة كل السلطة له، وبعدها يأخذ الفقهاء زمام التحكم في المجتمع ليحكمه الوهابي بسلاح هذا حلال وهذا حرام.

ثالثا: في مجتمعنا قلة صغيرة تنظر إلى المرأة على أنها إنسان له كامل الحقوق، وأكثرية تنظر إليها على أنها أنثى وظيفتها توفير المتعة للرجل في الفراش، والطعام في المطبخ، والتربية في البيت للأولاد، وخارج هذا فهي إما مثيرة للغرائز في الشارع، أو «ولية» ضعيفة تستحق الشفقة والعطف… الشباب الذين هجموا على فتاة معاقة ذهنيا في حافلة للركاب قبل شهر في الدار البيضاء، فعلوا ذلك لأن في عقولهم صورة عن المرأة/الجسد، وصورة عن الذكر/الرجل… المرأة في المجال العام، محجبة أو متحررة، تثير غرائز الذكر، ليس فقط لأن الأخير مكبوت أو مريض أو محبط، بل لأنه يرى المرأة من ثقب الجنس فقط، ولا يراها من باب الإنسان الذي لا يفرق بين ذكر وأنثى إلا في الفراش، أما في الحياة العامة فالمرأة طبيبة وقاضية وشرطية ووزيرة ورئيسة حكومة وملكة… ولا تنقص أنوثتها شيئا من إنسانيتها، كما أن الرجل لا تزيد ذكورته شيئا في إنسانيته. هذا المعنى لا نراه في حياتنا اليومية، والأكثر مدعاة إلى الخوف هو أن النظرة التحقيرية إلى المرأة تزداد ولا تنقص في مجتمعنا مع توالي الأيام، بسبب سوء التعليم، وبسبب نمط التدين الجديد، وبسبب غياب القانون في الحياة العامة و… و… و…

رابعا: المال في مجتمعنا ليس وسيلة بل غاية، والإمكانات المادية تصبح أساس المفاضلة بين الناس، تحت شعار: «شحال عندك شحال تسوى»، وهذا المفهوم يزداد رسوخًا يوما بعد يوم، ليس فقط لأسباب أخلاقية، بل لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية كذلك. في بلاد لا يطبق فيها القانون على الجميع، والمساواة موجودة فقط في الكتب المدرسية، والإحساس بعدم الأمان يخترق الجميع، يصبح المال «بوليصة تأمين» على مستقبل الفرد المعزول عن مستقبل الجماعة.. تأمين من أخطار حقيقية أو متوهمة، ويصبح السعي إليه بسرعة وبلهفة مبررا لكل شيء.

من نتائج كل هذا أن جرى تعبيد الطريق نحو مد اليد إلى المال العام، فتفشى الفساد والرشوة وشراء الذمم والأقلام والضمائر، وأصبحنا مجتمعا يشكل فيه المال وحده قيمة اجتماعية، وسلطة حقيقية، ووسيلة مفاضلة بين أفراد المجتمع، حيث يتعامل الشرطي، مثلا، مع صاحب السيارة الفاخرة بطريقة مختلفة تماما مقارنة بشخص له سيارة متواضعة أو دراجة نارية، مع أنهما معا قد يرتكبان المخالفة نفسها أو الجريمة ذاتها.

لنقف هنا، وإلا فإن هناك أمثلة كثيرة على أعطاب مجتمعنا الذي يحتاج إلى وقفة مع الذات، وإلى التخلي عن تلك النظرة اليسارية القديمة التي كانت تقدس الجماهير الطاهرة والنقية، وتشيطن السلطة وتعتبرها فاسدة وملوثة… مقولة إن لكل شعب الحكومة التي يستحقها صحيحة إلى حد بعيد، إلا عندما تصير هذه الحكومة متسلطة على رقاب لا تريدها، وتدخل الدولة مجتمعها في قالب خشبي حتى لا يكبر، وحتى لا ينتج الدولة التي يريدها… أما وإن الناس يقبلون الظلم، أو يسكتون عنه، ويعيدون إنتاجه في ما بينهم وفق تراتبية اجتماعية، فإن مقولة لكل شعب النظام الذي يستحقه صحيحة إلى إشعار آخر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لكل شعب السلطة التي يستحقها لكل شعب السلطة التي يستحقها



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

رحمة رياض تتألق بإطلالات متنوعة تجمع بين الأناقة والجرأة

الرياض - المغرب اليوم

GMT 23:15 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل تتسلم رفات رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر
المغرب اليوم - إسرائيل تتسلم رفات رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر

GMT 13:39 2025 الخميس ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر
المغرب اليوم - حميدتي يعترف بانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر

GMT 18:50 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

أروى جودة تتعرض لموقف محرج في «الجونة»

GMT 21:59 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

"كيا" تطلق سيارة كهربائية متطورة قريبا

GMT 02:14 2019 الجمعة ,18 كانون الثاني / يناير

برج "برواز دبي" يَجذب مليون زائر في عام واحد

GMT 21:28 2018 الثلاثاء ,25 أيلول / سبتمبر

سفير المغرب في هولندا يكرم البطل التجارتي

GMT 02:30 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

"50 فكرة عن" الاقتصاد" كتاب حول النظم الاقتصادية

GMT 02:02 2018 الخميس ,22 آذار/ مارس

عمرو عمارة يبيّن أسباب تسوس الأسنان

GMT 15:25 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

الفنادق الأكثر جاذبية في العالم خلال عام 2018

GMT 18:10 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

لعبة "أسياد الشرق" صراعات ملحميّة تحاكي صراع الجبابرة

GMT 22:51 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء يرغب في استقبال الدفاع الجديدي في ملعب العبدي

GMT 04:26 2016 الخميس ,25 شباط / فبراير

حرق سعرات حرارية دون بذل مجهود

GMT 21:07 2015 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

ميرفت أمين بين نجوم فيلم "هتقتل تسعة"

GMT 03:10 2017 الأربعاء ,04 كانون الثاني / يناير

منتجع جزيرة ميليدهو ملاذ زوار المالديف في فصل الشتاء

GMT 05:56 2015 الأربعاء ,23 أيلول / سبتمبر

أبطال مسلسل "البيوت أسرار" يكملون تصوير مشاهدهم

GMT 09:29 2016 الجمعة ,07 تشرين الأول / أكتوبر

عطور نسائية تجذب الرجال وتزيد من دفء العلاقة الحميمة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib